ابن القدس د. عيسى بلاطة يعود إلى القدس!

حجم الخط
39

الغربة هي أيضاً أن تعلم برحيل أصدقاء الأمس بعد ذلك بوقت طويل.. فقد تناثرنا بين القارات كالعصافير في العاصفة. ولم أعلم برحيل الشاعر اللبناني روبير غانم إلا مؤخراً، وكان قد لفتني خلقه الرفيع على الرغم من أنني في ندوة أدبية عن كتاب له برفقة أنسي الحاج كانت مداخلتي بعنوان «روبير غانم شاعر مع وقف التنفيذ».. أحزنني رحيله ورحيل الصديقات والأصدقاء: أنسي الحاج، وديزي الأمير، ومي منسي، وياسين رفاعية، وجان ألكسان، وحافظ محفوظ، وسواهم كثير. شعرت بالحزن لأنني كنت بعيدة عنهم في لحظاتهم الأخيرة ولم أودعهم. وتذكرت قول الشاعر ييتس: كل شيء يتغير… ويتساقط الواحد منا قبل الآخر!
ورحل الصحافي الصديق وليد عوض الذي أشتري مجلته كلما كنت في بيروت «الأفكار».. وهبّت عليّ ذكريات عملنا معاً برفقة غسان كنفاني في «الحوادث» كسرب من الفراشات والدبابير، حين علمت مؤخراً بنبأ رحيله وأدركت أنه عاد إلى مسقط رأسه في طرابلس.

أمير الحلو، عاد إلى النجف وكربلاء

علمت مؤخراً أيضاً برحيل الصديق العراقي الإعلامي العزيز أمير الحلو، ولم أدر من قبل لأكلم، معزية، زوجته صديقتي ابتسام عبد الله الصحافية والروائية. وها هو أمير يعود إلى مسقط رأسه في النجف وكربلاء.. مع رحيل كل صديق أو صديقة يتفجر نبع الذكريات وأيامي معهم ومع إبداعهم، ويركض نهر الحنين.. كأنني كلما رحلت صديقة/صديق لي أموت قليلاً بموتهم.. كأننا نموت بالتقسيط مع رحيل رفاق الأبجدية..

حافظ محفوظ: ربع قرن من الصداقة

منذ وفاة زوجة حافظ محفوظ الصديقة، شعرت بأنه سقط في بئر الغم، لكنه كان يكابر ويغرق أحزانه في عمله في مجلة «الحصاد» كرئيس تحرير. ولعله الوحيد من أصدقائي الذي علمت برحيله صباح اليوم التالي، إذ اتصلت بي السيدة ابتسام أوجي، رئيسة مجلس الإدارة، التي تعرف مدى صداقتنا، ونقلت لي النبأ. كما اتصل بي ابنه بسام في اليوم التالي. عملت وحافظ حوالي ربع قرن في «الحوادث»، وكان مثالاً للصداقة الأخوية الصافية كنبع جبلي.. وكان يحن إلى مسقط رأسه في «مرجعيون» لبنان.. ولكنه رحل في لندن.. وبعد موته عاد إلى مرجعيون..
نحن نعرف مكان ولادتنا.. لكننا لا نعرف مكان وفاتنا وتوقيت ذلك!.. وحين يموت أصدقاء الأمس يذكروننا بموتنا الشخصي الآتي..

عيسى الفلسطيني حتى قاع عظامه

ورحل عيسى بلاطة.. سمعت باسمه للمرة الأولى من الفلسطينية حنان عواد التي كانت تحضر أطروحتها عني بالإنكليزية في جامعة ماكجيل (مونتريال) الكندية، بإشراف أستاذها البروفيسور عيسى بلاطة، وكان عنوانها «قضايا عربية في أدب غادة..»، ثم أصدرتها في كتاب عن دار نشر كندية. وقامت «دار الطليعة» بإصدار ترجمة لها إلى العربية.

البروفيسور بلاطة كتب التقديم لها

وتواصلت أبجدياً مع د. بلاطة، ولم نلتق يوماً، وربطتني مودة مع زوجته أيضاً، ولفتني علمه وسعة اطلاعه وانكبابه على العمل..
ورغم نجاح د. عيسى بلاطة في مغتربه.. ظل يحن إلى القدس، المدينة التي اضطر إلى الهجرة القسرية منها بعد الاحتلال الإسرائيلي لجزء منها عام 1967 وهزيمتنا العربية التي يدعوها البعض نكسة، وتجلي ذلك الحنين في روايته «عائد إلى القدس».

يُغرق حزنه لفراق القدس في النجاح

بلاطة كان أستاذاً للأدب العربي في جامعة ماكجيل، والمشرف على الدراسات العليا في «معهد الدراسات الإسلامية».. وغزير العطاء في حقل الترجمات والدراسات الأدبية وفي إصداراته للكتب؛ لتعريف الغرب بالأدب العربي، وهكذا أصدر دراسات عن (فدوى طوقان ومشكلة الموت) وتوفيق صايغ (الكركدن المحاصر)، وعن هشام شرابي، وترجم مذكرات الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (البئر الأولى).. وكنت سعيدة بترجمته لمجموعتي القصصية «القمر المربع» وحاز الكتاب «جائزة الكتاب العربي المترجم للإنكليزية» من جامعة أركنساس.
ولكن روايته «عائد إلى القدس» تركت أثراً أليماً في نفسي، إذ شعرت فيها بلوعة الفقد، فقد فلسطيني لوطنه. وهي رواية وجدتها جيدة، ولكنها لم تحظ بالاهتمام النقدي الذي كانت تستحقه ولا بإقبال القراء.. وإصدار الكتب هو مغامرة حب، وأحياناً يحب القراء من لا يستحق ثم يكتشفون جمالية عمل أهمله آباؤهم.. وأظن أن كتاب «عائد إلى القدس» من هذا النمط..
دعمني بلاطة حين أصدرت «رسائل غسان كنفاني» لي، وكتب قائلاً: وجدت في رسائل غسان أدباً شخصياً رائعاً وجزءاً من تاريخ الأدب العربي الحديث، ونشرها يفتح آفاقاً جديدة للأدب الشخصي الذي نفتقر إليه في العالم العربي، وقد حان لنا أن ننزع الأقنعة عن ازدواجية الروح فينا.

هل تعود أرواحهم إلى فلسطين؟

أولئك الذين ولدوا في فلسطين وطردهم المحتل الإسرائيلي من أوطانهم في هجرة قسرية.. هل تعود أرواحهم بعد وفاتهم إلى البيوت التي ولدوا فيها وإلى أرضهم السليبة؟
هل عادت أرواح سميرة عزام وشفيق الحوت وكمال ناصر وغسان كنفاني وسواهم كثير من أصدقائي الفلسطينيين.. هل تعود أرواحهم إلى الوطن وإلى بيوتهم الأولى؟

بيوت مسكونة بالأرواح

هل عادت روح عيسى بلاطة إلى بيته في القدس كما جاء في عنوان كتابه «عائد إلى القدس»؟
وهل يشعر الإسرائيلي الذي احتل بيته وسريره بأن البيت صار مسكوناً بروح أو أكثر؟ كثيرة هي الأفلام والروايات عن البيوت المسكونة بالأرواح والأشباح. هل عالمنا ليس فقط ما نراه؟ هكذا تساءلت حين علمت بنبأ رحيل عيسى بلاطة.. تراه كان يعني بعنوانه «عائد إلى القدس» أنه سيرجع يوماً إلى بيته حياً أو ميتاً؟ من يستطيع إثبات ذلك أو إثبات العكس؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    صبحكم الله بنوره لك أختي غادة السمان وللجميع. رحمهم الله جميعاً. كلما كتبت عن أصدقائك الذين رحلوا يرواودني السؤال, هل سأعود يوماما إلى قريتي لأموت هناك بسكينة وهدوء, في الوقت الحاضر لايبدو الأمر كذلك لكن يعلم الله كيف هو المستقبل. مع خالص محبتي وتحياتي للجميع.

    1. يقول غادة الشاويش _بيروت سابقا عمان حاليا:

      هناك يا اسامة قيامة ومعركة لها ملائك وجنود لا اعرف ماذا اقترح عليك تنتابني ذات المشاعر المحبطة التي انتابتني ذات يوم بعد ان حاولت ان اعمل في المخيمات الفلسطينية في لبنان والنقسمة الى مناطق نفوذ بين فصائل ذبلت وفسدت ووصلت حد الاتجار بالقضية الاقدس وبين مجتمع الكادحين البريء الذي تتقاذفه الشعارات الثورية التي تكذب على الذمم وبين مقاومة حقيقية لكنها مخترقة بالف عدو وبين بنادق مشغولة بالتصفيات والاغتيالات ءااااه يا اسامة ما اصعب ان يعيش المرء مشاهدا او عاجزا فكر جيدا ان مواسم الوطن تهب حين يرشق الدم على بوابات الهدف فيفتحها ولكن فكر جيدا اين تضع قدميك وكيف تفتح ثغرة في جدار العدو وكيف لا تعيش اكاديميا حزينا على وطنك الممزق ان نظرية الفيزياء التي لا تنتج سلاحا نوعيا ولا الما للعدو يجب ان تراجع قيمتها
      اختك المحبة غادة!

    2. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      أختي غادة الشاويش, شكراً على كلماتك النبيلة. من ناحية المقاومة الفكرية بالكلمة في الحقيقة لا أشعر أنني مقصِّر بما أستطيع من إمكانيات هنا في ألمانيا. المشكلة أنا أعرف أن هذا نقطة من بحر, وأننا نحتاج إلى وعي سياسي أكبر بكثير مما نحن فيه. أتذكر كم دافعت عن حزب الله في الماضي وإذا بهم سراب خادع ليس إلا. الآن أرى بحسرة وبمرارة كيف أن الشعب السوري يذوق مرارة المقاومة العقائدجية البائسة, رغم ذلك كلي إيمان بالله ولاأفقد الآمل أبداً.

  2. يقول غادة الشاويش _بيروت سابقا عمان حاليا:

    اننا نولد يا اميرة الكلمات ومعشوقة الزمن الجميل زمن البندقية الفلسطينية في بيروت وفي قلوبنا بوصلة تقيم كل يوم كربلاءها على فقد مدينة السماء الارض ! لم اولد في فلسطين ولم ارها الا مرة واحدة ذات تخطيط مبكر لشيء ما كانت تشبه في حسي رحلة الاسراء في عين النهار ! لم اصدق انني اجتاز الحدود واسلك الطريق حتى رام الله وابيت في القدس معتكفة في العشر الاواخر من رمضان !ذهلت لعطايا السماء التي لا تعرف اسبابا مقنعة لتوقع اقدارها ! فانا لا املك ورقة واحدة تؤهلني للدخول فلست مواطنة ولا املك هوية صفراء او خضراء او زرقاء او جنسية اجنبية لكني املك عيون امي النازحة اللاجئة وكد ابي وبندقية جدي ومسدس جدتي الذي حاصر ذات ليل مجندا انجليزيا قفز سكرانا الى حديقة بيتها تمام الثالثة فجرا سيدتي نولد وفي قلبنا نقش القدس ونعيش على طريقها ونموت على بواباتها

  3. يقول سادن (حارس) النور النبوي السعيد الشريف المبارك أبو تاج الحكمة الأول:

    أزهاري

    شدوى الحنين يقول قيثاري
    للغادة السمان أزهاري
    للغادة السمان أزهاري
    للغادة السمان أزهاري

  4. يقول سادن (حارس) النور النبوي السعيد الشريف المبارك أبو تاج الحكمة الأول:

    للقدس العربي
    المجد للعربية القدس
    كلماتها كإضاءة الشمس

  5. يقول رؤوف بدران -فلسطين:

    غادة (الشاويش) وكفى:
    ان قلت لكِ اختاه فانتِ كذلك, وان ناديتكِ يا ابنتي فانتِ اغلى من ذلك, لهذا سأناديكِ غادة وكفى !!
    لاهمس همسات مغترب في وطنه, اشرفت شمس عمره على المغيب, وبدأ يحزم امتعته استعداداً للرحيل ؟! ويصرخ من قمم الكرمل علَّ صدى صوته يسمع في بيروت, في عمان لتتلقفه اُّذناك وتفهم تفسير لغة ولعلعة التراب يناديكِ ويستجديكِ ليعاتبكِ لماذا طال الغياب؟!!
    ان شجيرات ارض آليا النبي من فلسطين الجريحة, تخبرك لتبشرك, ان اوراقها ما زالت دائمة الاخضرار هي واخواتها من شجيرات الزيتون وبيارات الليمون, في الكرمل في الجليل في عكا وحيفا والرملة ويافا… في بيسان وعسقلان, تطلق اناتها مصحوبة بوجع السنين ولكن بعزم المؤمنين اننا هنا مشرشون ومجذرون وباقون ما بقي الحمام الزاجل وغرد الحسون, وان كرومنا تطعم الغادي زاداً, واكتاف من يلينا متينة تصوب بنادق العزم نحو مجالات التحرير لتحريرها من دنس المغتصبين والسلام

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      إنت المعلم, ومنك نتعلم! بارك الله فيك يا إبن فلسطين الرؤوف البار, وزادك صحة ومعافاة, والله لقد إستمتعت بقراءة تعقيبك يا أديبنا المخضرم!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  6. يقول المجد للعربية القدس:كلماتها كأشعة الشمسي:

    ابو تاج الحكمه الاول
    اتمنى للجميع عاما هجريا سعيدا وشكرا للقدس العربي وشكرا لتحيات السيد رؤوف بدران الرؤوفه
    عام سعيد

    1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      وكل عام وانت والجميع بخير أخي أبو تاج الحكمة

  7. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    أخي الكروي داود النرويج, بمفهومك للإسلامي وضعت النقاط على الحروف التي توضح مشكلتنا الأساسية. أي الشمولية التي يعمل بها كل المتسلطين الذين يحكمون بلادنا. فلماذا تريدها أنت أيضا. هناك أساس مهم لبناء الدولة في العصر الحديث وهو التعددية وفقدانها هو سبب مآسينا, في اعتقادي.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية