توقُّفُ المثقفين العرب أمام ظاهرة الإخوان المسلمين، بعد أن قفزوا إلى واجهات الحكم، عقب ثورات الربيع العربي، والحيرة والذهول والاضطراب، الّذي يبدو عليهم إزاء هذه الظاهرة، لا يذكّرني عبثاً بنكتة الحشّاش الّذي صادف صخرة في طريقه فتوقف أمامها وجعل يفكر مَنِ الخبيث الّذي وضعها في طريقه، وأيها أفضل الطرق للتخلّص منها وإزاحتها ليواصل طريقه مستقيماً؟! ليس بدعاً من الأمر أن يتناول الكاتب الفرنسي ‘ريمون آرون’ حيرة المثقف وعبثية دوره في التغيير السياسي والاجتماعي، في كتابه، أفيون المثقّفين، وأن تكتب سيمون دي بوفوار كتابا ضخماً حول أزمة المثقف في المجتمعات الحديثة بعنوان ‘المثقفون’! إذن فمثقفنا ليس بدعة من الأمر، والأزمة في النهاية رُبما تكون في الثقافة نفسها، أو الشخصية التي تصنعها تلك الثقافة! وربما تكون في الدور الموكول للمثقّف أن يؤديه! على أية حال فوجه الشبه بين مجتمعنا والمجتمعات الغربية، هو أنّ الموقف السياسي للمثقف الغربي يتحدد من خلال ثقافته نفسها، أو تلك الّتي يتبنّاها ويؤمن بها، ويجد نفسه في أحيان كثيرة مضطراً إلى تكييفها للمتغيرات الاجتماعية والسياسية حوله والاستجابة لها بشكل او بآخر! مقابل ذلك يجد مثقّفُنا نفسه، أمام خيارات حادّة: إمّا إلى هؤلاء وإمّا إلى هؤلاء، والسبب أنّ المجتمع الغربي قد نبذ المقدّسات في الحياة السياسيّة، وألجأها إلى ركن ضيق، فهو لا يُخطّئ ولا يُجرّم في موقفه من الدين! وهذا بالذات هو مطلب الطيف الواسع من مثقّفينا، الّذين تطلق عليهم أسماءٌ مختلفة كالليبراليين والعلمانيين واليساريين، والذين اجتمعوا أخيراً في جبهة واحدة، هي جبهة الخصومة مع المتديّنين، أو من أطلقوا عليهم بدورهم اسم الإسلام السياسي! ولذا تطفو على سطح هذا الخلاف مصطلحات مثل: الدولة الدينية والدولة المدنية، وتطرح أسئلة من قبيل فصل السياسة عن الدين، وعن دور المسجد وعن مشروعية الشعار الديني، أو إقصاء الآخر باسم الدين، أو تبنّي المشروع الديني كحل سياسي! وأتجرّأ فأقول أنّ مثقّفنا لم يدرك للآن عمق المياه الّتي يغوص فيها، واعتقَدَ أنّ هناك مخرجاً سهلاً يتمثّل في تبنّي الأحزاب الدينية لمشروعه، أو الوقوف معه على أرضٍ واحدة، بدل الإمعان في ممارسة انتهازيّتها من خلال الثنائية الّتي تطرحها: دينٌ معنا و’لا دين’ ضدّنا، أو ما يعبّر عنه المثقف بالقسمة إلى معسكرين:معسكر الإيمان ومعسكر الكفر! وهو لا يدرك أنّه بطلبه هذا إنّما يتوجه إلى الخصم ليتزيّا بزي الصديق، أو أن يستبدل سلاحه الفتّاك بسلا ح أقّل فتكا، أو من نفس النوع الّذي يستعمله هو، من قبيل النزاهة أو الشهامة وألفروسيّة، أو الفرص المتكافأة، ولا يعي أنّ هذه المثاليّة السياسية هي نوع من الطوباوية، الّتي لا وجود لها في لعبة السياسة وممارساتها، وهي ذاتها أزمة المثقف في المجتمـــعات الغربيّة، والّذي طالب خصومه بمواقف أكثر أخلاقية، وتكــــريساً للمباديء، في حين أنّه هو نفسه يعتنق فلسفة يسارية تسقط الأخلاق من حسابها ولو نظريّاً على أيّة حال! وكما لم يدرك المثقّف الغربي، أنّ دعواته الأخلاقية قد ذهبت صرخة في واد في حمأة الخصومة السياسية! لم يدرك مثقفنا العربي أنّ دعوته للتخلي عن الدين في ميدان السياسة، هي دعوة تصمُه هو، لا بل تثبت مقولة خصمه، ووصمه له باللادينية واللاأخلاقيّة والكفر!واضعاً بذلك أفتك الأسلحة في يد خصمه عوضاً عن تجريده من سلاحه!غير مدرك أنّ العلمانيّة في أوروبا لم تقدّمها الكنيسة كهديّة لخصومها العلمانيين، ولم تأت من خلال اتّفاق ودّي بين المتدينين والعلمانيين!، وإنّما كُرّست من خلال أخطاء الكنيسة الفادحة وفشلها في مواكبة التطورات الفكريّة والاجتماعيّة، وجاءت الفلسفات الوضعيّة حتى من بين صفوف الكنيسة نفسها عبر القديس أوغستين على سبيل المثال، ومن خارجها عبر أوغست كنت وديكارت، وحتى الجهود العلمية كان لرجال الدين إسهام فيها كمندلْ على سبيل المثال، فكان الانتصار على الخرافة الدينية، انتصاراً للعلم وليس للفكرة السياسية!إلّا أنّ مثقّفنا العلماني واليساري لا يدرك الفارقين النوعي والزمني بين السياقين، فهو بدل أن يترك للفكرة السياسية الدينيه، مهمة إثبات فشلها كما يأمل، ليصعد على أنقاضها بعد ذلك، يطلب إليها وضع سلاحها جانباً قبل بدء المعركة! هذه المثاليّة الّتي عرض لها كلٌّ من ‘آرون’ و’بوفوار’ تتصاغر عندنا من مثاليّة إلى طفوليّة، ولا تُبقي أمامنا إلّا إلغاء الشوط وإعادة العدّ من جديد، أو ما يسمّى بالردّة في المصطلح السياسي، وهذا ما يفتح الباب واسعاً لتغوّل أكثر القوى رجعية وأقلّها بصيرة واستنارة، والّتي لا مانع لديها أن تعيد الأمور إلى نقطة الصفر أو إلى ما قبلها ما دامت تتربّع على سدّة الحكم بستار أو من غير ستار، أقصد بذلك ا’الجنتا’، أو الطغمة العسكريّة، والّتي يقبل بها مثقّفنا بلا أي خجل ما دامت تُلقي إليه بحبل الود وتدغدغ علمانيّته المُدّعاة!وهو يُقدّم هذا الخصم الكبير للطغمة العسكرية، لأنه تحت تأثير الأفيون الثقافي لم ير في الظاهرة الدينية سوى خمسة حروف ينبغي حذفها من الأبجديّه:إ,خ,و، ا، ن. ومسلمون أيضاً!