اختراع أرض إسرائيل

حجم الخط
0

يمكننا وفي سياق الإشارة إلى ما يقوله ساند في كتابه «اختراع أرض إسرائيل» وآخرون غيره من المؤرِّخين والاكاديميين الإسرائيليين أنْ نقول:
لقد شكَّلت مسألة اختيار وتعيين الإقليم أو الوطن القومي بالمعنى الجيوسياسي كَمَفَازةٍ لخلاص الشتات اليهودي من الاضِّطهاد محوراً انشطاريَّاً في فكر الحركة الصُّهيونيَّة منذ البدايات المنهجية لنشاط الحركة الصهيونيَّة، وتقرباً منذ المؤتمر الصُّهيوني الأول في بازل في سويسرا عام 1897؛ وكانت مسألة الإقليم وتعيين الوطن القومي مدعاةً لسجالاتٍ طويلة بين ثيودور هرتسل وبين المثقف والمفكر الصهيوني برنارد لازار على سبيل المثال – ولازار هو المحامي والكاتب اليهودي الفرنسي والمُنظِّر الصهيوني الذي ترافع في قضية درايفوس واكتسب شهرةً من خلال ذلك، ودرايفوس هو الضَّابط اليهودي الفرنسي الذي اتُّهِمَ بالخيانة والتَّعاون مع الجيش الألماني ضد فرنسا قبل أنْ تتم تبرئته عام 1889؛ حيث نُظِرَ إلى اتهام درايفوس بالخيانة وإلى محاكمته على تلك الخلفيَّة والتي أشغلت الرأي العالم في فرنسا وأوروبا لبضعة سنوات باعتبارها قضيَّة قامت على أساس مشاعر ودوافع العداءِ للسَّاميَّة كونه ضابطاً يهوديَّاً؛ الأمر الذي دفع ثيودور هرتسل للقول: إنَّ قضية درايفوس هي من جعلتني صهيونيَّاً.
في النِّهاية انسحبَ برنارد لازار من عضوية المؤتمر الثاني للحركة الصهيونيَّة على خلفيَّة اتِّهامه لثيودور هرتسل بمحاولة التوظيف الانتهازي لمفهوم الإقليم الجغرافي السياسي كشرطٍ من شروط الخلاص للشعب اليهودي؛ فيما كان برنارد لازار يرى أنَّ خلاص الشعب والشتات اليهودي من الاضِّطهاد ينبغي أنْ يتم في نطاق الدُّول والأقاليم التي يعيش فيها عبر حصوله على حقوق المواطنة الكاملة والاندماج؛ وحيث لم يكن قد حسم حتَّى ذلك الحين، أيْ حتَّى المؤتمر الصهيوني الثَّالث، أمر اختيار فلسطين كوطن قومي من قبل ثيودور هرتسل على الأقل.

أقطاب الحركة

بعد ذلك وكنتيجة لتوافر شروط اختيار الإقليم الجغرافي – فلسطين – كوطن قومي للشعب اليهودي وفق رؤية معظم أقطاب الحركة الصهيونيَّة؛ فقد تحوَّل البيت بالمعنى الوجداني الجَمْعي والسِّياسي إلى الوطن القومي الذي يجمع شتات الشعب اليهودي في أرض إسرائيل التَّوراتيَّة في فلسطين الانتدابيَّة.
في التَّحليل النِّهائي؛ من الصَّعب فصل السياسي عن الآيديولوجي في إسرائيل منذ الإعلان رسمياً عن إنشائها في أيار/مايو عام 48 وحتى الآن، كما من الصَّعب تماماً تناول النِّظام الدِّيمقراطي والإطار القانوني هناك بمعزلٍ عمَّا تفرضه الآيديولوجيا من مفاهيم أساسيَّة؛ لقد صيغَ الإطار القانوني أو جملة القواعد القانونيَّة – المحكومة عوضاً عن الدَّستور بمفهوم القانون الأساس في الكنيست – والتي تَنْظُّمُ مختلف جوانب الحياة هناك منذ عام 48 بهدف تبرير الآيديولوجيا وتسهيل وظيفتها؛ ولإعطاء الآيديولوجيا القوميَّة الدِّينيَّة مسوِّغات قانونيَّة تتواءَم وغاياتِها الأساسيَّة؛ ولإعطائها مزايا وقدرات ديناميكيَّة في سبيل تطبيق نظريَّاتِها مرحليَّاً وموضوعيَّاً، تطبيقاً مُتَدَرِّجاً مَرِناً تَراكميَّاً فعَّالاً.

إنقاذ البيت

وفي مواجهة التيَّار السِّياسي العارم المعترض على اداء نتنياهو– سواءٌ من بقايا اليسار بمفهومه التَّقليدي أو من الأحزاب التي تشكل الوسط الجديد المُنحاز يميناً بمفهومه القائم والصَّاعد واقعيَّاً الآن، والَّذي يرفع شعار إنقاذ البيت – يقوم بنيامين نتنياهو هو الآخر باستعارة وإعادة توظيف التعبيرات والمصطلحات؛ يأتي في سياق ذلك تصنيف كل تلك الأحزاب عدا أحزاب اليمين التقليدي المعروفة بكون كل الأحزاب المعارضة أنَّها يسار يستهدف التحالف مع العرب والأحزاب العربية في سبيل إسقاط اليمين القومي الوطني الذي يرفض تسليم أجزاء من أرض إسرائيل للعرب؛ فيما اليسار مستعد لذلك بالاعتماد على الكتلة العربية المانعة في الكنيست؛ وهذه مفردات جرى استخدامها مراراً من قِبَلِ الليكود ومن قبل نتنياهو تحديداً في أكثر من مناسبة انتخابيَّة في السَّابق، ويقوم نتنياهو بترتيب وحشد الحلفاء من اليمين الدِّيني القومي – بل ويقوم حاليَّاً بإعادة إحياء أحزاب يمينيَّة متطرِّفة كحركة كاهانا عبر دعم أحزاب يمينيَّة صغيرة مرتبطة بها – كحزب السلطة اليهوديَّة على سبيل المثال – ومساعدتها على اجتياز نسبة الحسم في الانتخابات المقبلة؛ وهذا الأمر بدأ نتنياهو القيام به قبل بزوغ نجم إئتلاف « أزرق أبيض « بقيادة بني غانتس ويائير لابيد حيث تعطيه استطلاعات الرَّأي الأخيرة أكثر من 34 مقعداً في مقابل أقل من 32 مقعداً لحزب الليكود الذي بات يتنافس هو وحزب اليمين الجديد بقيادة نفتالي بِينِتْ على الجمهور اليميني التقليدي نفسه. ويُحاول نتنياهو حشد كل أحزاب اليمين إلى جانب الليكود المُستند أساساً إلى خزَّان ديمغرافي سفاردي – شرقي – ضخم وإلى قيادة نخبويَّة أشكنازيَّة تقليديَّة.

رهان الليكود

لقد كان رهان الليكود الدائم ومنذ الانقلاب السياسي عام 77 الذي أوصله إلى الحكم بديلاً عن القيادة التاريخيَّة التقليدية لحزب مباي والعمل قائماً على القيادة الليبراليَّة في المضمار الاقتصادي، وعلى ما لديه من فائض في الخزَّان الدِّيمغرافي من اليهود الشرقيين الذين جرى تهميشهم طوال فترة قيادة إئتلاف أحزاب اليسار – مَبَايْ ورافِي ومَبَامْ والعَمَلْ – للدولة والمجتمع على أُساس مفاهيم اشتراكيَّة صهيونيَّة خاصَّة في المضمار الاقتصادي والاجتماعي والثَّقافي – وتلك المفاهيم كانت خاصَّة وخالية من المضامين الأممية بطبيعة الحال – وقد كانت قواعد ومنطلقات القيادة العمَّاليَّة تنبع أساساً من المفاهيم الرُّؤى الأصليَّة لحركة العمل العبري التي قادت بواكير الييشوف والاستيطان الزِّراعي والمستوطنات التعاونيَّة – الكيبوتس – والتي أقصت اليهود الشَّرقيين إلى هوامش المجتمع والاقتصاد والحياة السياسيَّة والعسكريَّة منذ خمسينيَّات القرن الماضي تاريخ بداية تدفق الهجرات من اليهود الشرقيين ويهود الدول العربية؛ وكانت تلك الحركة تُقاد نخبويَّاً من قبل اليهود الغربيين أو الأوروبيين الشرقيين – من بولندا وروسيا والمَجَر وغيرها من الأقاليم الأوربيَّة الشرقية والغربية – والتي بدورها أعطت المزايا والأفضليَّات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافيَّة والعسكريَّة للفئات الأشكنازيَّة على حساب الطوائف الشرقيَّة وعلى حساب الطوائف المرتبطة بالصهيونيَّة الدِّينيَّة؛ مِمَّا أسهم في تشكيل ورفد خزَّان الليكود من ديمغرافيا الطوائف اليهودية الشرقية ومن المهمَّشين كثيري العدد؛ وحيثُ يتحوَّل ثقل الدِّيمغرافيَّة الطَّائفيَّة إلى أصواتٍ تصبُّ في النِّهاية في صناديق الاقتراع لصالح الليكود في النهاية؛ وهو الأمر الذي من الممكن أنْ يتكرر اليوم كما تكرر أكثر من مرَّة في السَّابق؛ ما دفع نتنياهو ذات مرَّة للقول في مواجهة شمعون بيرس في انتخبات عام 96: إنَّ شمعون بيرس يفوز دائماً في الاستطلاعات أمَّا أنا فأفوز في النهاية بصناديق الاقتراع.
وفي هذا المناخ المُفْعَم بإحياء مفردات اللغة القَبَلِيَّة السِّياسيَّة في إسرائيل المتصلة بإطلاق تعبيرات وألقاب اليمين واليسار – علماً أنَّ واقع التَّيارات السياسيَّة المؤثِّرة في إسرائيل الآن ليس كذلك؛ فليس هناك يسار مُنافس بالمعنى التقليدي – ينبري اللِّيكود اليوم بالتحذير من فداحة بعثرة وضياع أصوات اليمين في مواجهة تشكيلة من الأحزاب اليساريَّة المُتطَرِّفة على الصُّعد الثقافيَّة والاقتصاديَّة والمُتهاونة سياسيَّاً والمائعة آيديولوجيَّاً، والمؤتلفة والمتحالفة مع العرب: إنَّهم يريدون أنْ يعودوا ليقودونا بمفاهيم وآليَّات الاقتصاد الاشتراكي البالية بديلاً عن الليبراليَّة الفعَّالة المُنْتِجة، ويريدون أنْ يأخذونا إلى واقعٍ سياسيٍّ نُسلِّم فيه أرض إسرائيل للأعداء بمساعدة الأحزاب العربيَّة.. والحقيقة أنَّ كل هذه المفاهيم ليس لها واقع موضوعي؛ فليس ثمَّة يسار يُواجه ويُنافس اليمين في إسرائيل اليوم، بل هناك يمين وعلى يساره يمين آخر، هذا من جانب، وهناك عمليَّة ديمقراطيَّة، وهذا صحيح، ولكنَّ غايتها في المحصلة هي تبرير الآيديولوجيا.

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية