تتسم بعض الأعمال الأدبية برغبتها في تقويض الدلالات، وخلخلة المقولات، كما نعاين في كتاب پول أوستر «اختراع العزلة»، حيث جاء جدلياً في تكوينه الذي يقع بين السيرة والرواية، وليمضي بين هاتين الكتلتين السرديتين، عبر طابع تأملي يطال شيئاً من الأفكار، والمسلمات، كما القيم والمشاعر، والأهم المنظور المتشكك تجاه ما نستنتجه من وجودنا في تقاطعها مع الآخر، أو مع الوجود (المُجتزأ) الناتج عن العزلة، وعدم القدرة على التيقن من إدراك ما نقوم به، فنحن مدفوعون من خلال قوة مسيطرة، إنه شكل من أشكال التنازع، وإفراغ المركز من أي يقينيات تتصل بالوجود.
نشر كتاب «اختراع العزلة» للكاتب الأمريكي اليهودي پول أوستر عام 1982. ويتكون من حكايتين: الأولى تتصل بوالده الذي توفي مؤخراً، بعد أكثر من خمس عشرة سنة في عزلة، وبالتحديد بعد طلاقه. يحمل هذا الفصل عنوان «يوميات رجل لامرئي». في حين أن الفصل الثاني عبارة عن تأملات عميقة للذات الكاتبة «بعنوان كتاب الذاكرة». وبين هاتين الكتلتين السردية، ثمة الكثير من الرؤى، والأحكام التي تتقصد طرق اكتناه الوجود الحائر، أو ذلك العصي على الفهم، خاصة العلاقة الجدلية بين الأب والابن التي لا تستند في بعض نزعاتها المباشرة إلى مقولة «قتل الأب»، النفسية، غير أن أوستر يبدو في فعل تكوين صورة الأب مسكوناً بوعي طفولي ضاغط، نتج بدون إدراك محدد لصيغة هذا الوجود الغريب المدعو (الأب)، أو هذا البخيل المنعزل، والكسول، وغير المبالي، والمتقشف في عواطفه إلى درجة تثير الريبة. هذا التكوين لشخصية الأب ما هو إلا نتاج الماضي، الذي يختص بالعائلة، التي يقتل فيها الجد على يد الجدة، التي تتمكن من نيل براءتها لتبدأ رحلة إعالة أطفالها، ضمن صيغة مغايرة عن النمط الطبيعي.
سؤال الحياة يشكل مدخلاً للتكوين النصي، ولا يمكن أن نحدد ظلاله التي ترسم، إلا إذا وضع پول أوستر وجود الحياة في مواجهة الموت، فمع الثاني تتكشف الحياة، أو ينطلق ذئب التأمل في غابة المعاني
هذه المعرفة المتأخرة أو الطارئة لتاريخ العائلة، ربما تسهم في إدراك بواعث العزلة، ولكنها لا تبدو لي على أقل تقدير خطابات تكتسي طابعاً أعمق مما يبدو للوهلة الأولى، وأعني إشكالية العزلة بوصفها نزعة فردية، أو خاصية فلسفية، تكتسي وجودها من أسئلة عميقة في ذات پول أوستر، أو كما يحاول أن يعكسها في متنه، إنما هي تستند إلى ما يمكن أن ننعته إلى «لوغوس» عميق يتصل بجملة من النصيات التي تحفر في التشكيل التاريخي والديني لعائلة أوستر اليهودية، وما هذه الجاذبية التي تسعى، لأن تكتنه معاني العزلة، وجدلية العلاقة بين الأب والابن، ومن ثم علاقة الراوي (أوستر) مع ابنه – ضمن القسم الثاني من الكتاب – سوى ارتدادٍ للوعي العميق بالمشكلة اليهودية، وأثرها على الذات التي تستبطن مفهوم العزلة في قاع لاوعيها، أو تسعى لأن تجعله شيئاً من مكونات «الغيتو» الداخلي أو النفسي، بوصفه قشرة صلبة تختبئ خلفها هذه الذات.
غير أن هذا التأويل ربما يجابه بالتشكك، أو بالمبالغة، ففعل الاكتناه الخطابي لجملة النصيات التي تتسرب في عمق الكتاب، حيث تشي بذلك، فالنص ذو طبيعة تفكيكية واضحة، تستهدف توجيه وعينا إلى مستوى معين، ولكنها في جزء كبير، وعي النص ترغب في أن تدفعنا إلى التفكير، ولكن بدون أن نمتلك خاصية اليقين، إنما نبقى في دائرة التخمين، والحصر في تتبع مفهوم العزلة على المستوى الفردي. ولنتأمل مطولاً العتبة النصية التي يفتتح فيها پول أوستر نصه، حيث يقول نقلاً عن هيراقليطس «استعد في بحثك عن الحقيقة، لما قد يباغتك؛ فهي صعبة المنال. وبمجرد أن تقبض عليها، ستقف ناظراً إليها، وهي تتسرب من بين أصابعك». إذن هي الحقيقة التي تمضي بلا تيقن، إنما مواجهة لن تفضي إلى شيء.
إن سؤال الحياة يشكل مدخلاً للتكوين النصي، ولا يمكن أن نحدد ظلاله التي ترسم، إلا إذا وضع پول أوستر وجود الحياة في مواجهة الموت، فمع الثاني تتكشف الحياة، أو ينطلق ذئب التأمل في غابة المعاني، كما إعادة ترصّد اللحظات التي مضت من الحياة بما فيها من أشخاص، كما هو الأب الذي غادر الحياة فجأة، وهو لا يشكو من مرض، أو أعراض للغياب، غير أن الأهم أن هذا الأب لم يترك وراءه أي أثر، أو هكذا يهيأ لنا، فذلك الأب أبقى على مسافة من الحياة كي لا ينغمس فيها، فحضوره كان على مستوى فيزيائي، فلم يكن معنياً بأي شيء، وبذلك فإن موجودات الإنسان بعد رحيله تبدو في غاية الغرابة، فأنت لا تستطيع أن تقيم معها علاقة، خاصة إذا جاءت ضمن عزلة تامة، أو توقفت عن الإحالة على وجود قائم للذات، إنما إلى شيء قد أفل، حيث إن معظم الوجود كما ينعكس في الصور الذهنية، ما هو إلا مصطنع ، ومن هنا، فإن هذه الصيغة الدلالية في بنية النص تشي بالكثير من الطبقات العميقة لفلسفة الوجود التي يمكن أن تكون هشّة، فوجودنا أشبه بالمشي على طبقة جليدية رقيقة، ينبغي ألا ننغمس فيها كثيرا، كي لا تتهشم، ونقع في البرودة الموحشة.
هل يمكن أن نعد رحلة البحث عن ذات الأب رحلة في البحث عن هذا الوجود للتكوين اليهودي، على الرغم من انحسار العلامات الدالة على هذا في بنية النص، ولاسيما بعد بروز قصة العائلة بالصدفة، أي عائلة الأب؟ هل ثمة فيض دلالي بين الجد المقتول، والأب؟ إن الوجود في التكوين المؤسسي للحياة الزوجية بدا جزءاً من المشكلة حيث تعامل الأب مع الزواج بمظهره الخارجي، أو لعل الزيف كان شيئاً من مستحضرات الممارسة الزائفة، وهكذا يبدو وجود هذا الأب سلسلة من الاختراعات بما فيها العزلة والأكاذيب، ولكن ألا يمكن أن نعد ذلك تكوينا لوعي جمعي يسم الشخصية اليهودية، التي تنظر إلى الحياة ضمن نطاقها المصطنع والطارئ؟ إذ لا يمكن أن تقيم روابط عميقة مع الأشياء، وكأن أوستر ينطق بمكنون عميق من الوعي الجمعي الشعوري، وهو ما نراه في ثنايا ميكانيكية التعبير عن النفس، أو منتج المعرفة التي يتيحها لك شخص ما كي تقترب منه، أو عبر قدرته على الكلام كي تعرفه. إنه الصمت المتعلق بشيء لا مفهوم حيث جاء: «ولكن ماذا عن الرجل الذي لا يقول شيئا ولا يرتجف؟ ماذا عنه إذ تبدو كل معرفة به مستعصية، وكل ما يتعلق به مغلق وغامض».
إن معرفة الأب، أو معرفة الذات كما يتبدى في الجزء الثاني، تبرز من خلال اللغة، أو بعض المرويات – يصفها «أوستر» بأسلوبية الرواية – كان يحكيها الأب للابن، وبذلك تتكون قيم الخطاب التي تعني تلاشي العالم، مقابل اللغة التي تختزل كل شيء عند الفناء، بل إنها تمتصه، وتحوله إلى مجرد نص أو خطاب، ومن ذلك حكاية الأسرة، وفضيحتها التي تحوّلت إلى المجال العام، فأصبحت جزءاً من مروية «أوستر»، أو ماضي الأب، أو هذا الوجود. هذه الجريمة التي تتخذ خصوصيتها لأنها تنتمي إلى قطاع يهودي؛ ما أطلق فيضاً من التعليقات، والتعاطف أو الهجوم، ولكن باللغة العبرية، خاصة صفحات الصحف، ودوائر المجتمع، وهنا يبدو التساؤل حول إبراز دافع اللغط باللغة العبرية، ضمن سياق مجتمع أمريكي. إن مكون هذه اللغط يعود إلى تسنين عرقي وديني يتصل بهذه الماهية، أو وجود عائلة الأب التي تبدو أقرب إلى عشيرة في تكوينها. هذا التكاتف الشعوري بين أبنائها ليس إلا نمطاً مصغراً من الإحساس بالنمط الغيتوي. هي سلالة مسلكية تكمن في هذا الوجود الذي يفسر تعاملات اليهودي مع المال أو الأشياء، والأمكنة. إنها عزلة قائمة ضمن سياق أكبر، ونعني المحيط، مع أنها تتبدد على مستوى العشيرة التي ينبغي أن تحرص على وحدتها. فهذا السلوك أنتج ردة فعل في تكوين الأب، ومن ثم الابن في قدرتهما على الوفاء لهذه الصيغة، فالتكوين اليهودي ينهض على عدم الثقة التي تتولد سردياً ضمن تسنين تأويلي يضمره الكاتب في اللغة، أو النص: «وهكذا تعلم أبي ألا يثق بأحد أبداً منذ صغره».
إن تلك الإشارات المخاتلة للمكون اليهودي تحجبها غيوم المنطلقات الفلسفية للعلاقة بين الأب والابن، أو ذلك الحضور العاصف لصورة الأب، وغرابة عزلته، وجفافها، وبين الحين والآخر نتعثر في جمل تبدو لي غير بريئة، ومن ذلك السّرد الذي يتعلق بعمل الأب، وطرده من مصنع توماس أديسون لكونه ينتمي إلى الديانة اليهودية، أو تلك العضوية المعطلة في الأخوة الماسونية، كما يوضحها الخاتم، الذي كان في أصبع الأب المتوفى، الذي تُبتر سلسلة وجوده كون الابن أوستر، لم يتمكن من توفير صيغة واضحة لامتداده، وحتى علاقته مع ابنه هو الآخر، بالإضافة إلى تصوراته بخصوص الكتابة، وقيمتها الاستثنائية، بما في ذلك معنى وجوده في ظل ركام موجودات الأب المادية أو المعنوية، التي تبدو معطلة عن أي قيمة، وهنا يستعين أوستر بمقولة كيركيغارد: «أما الذي لا يعمل، فعليه أن يحيط علماً بما جرى على عوانس إسرائيل، لأنه لا يلد سوى الريح. فالمستعد للعمل هو وحده من يلد والده».
إنها لعنة العزلة التي تتكاثف نتيجة جملة من الأسباب، كما نقرأ في الجزء الثاني، مع محاولة اكتناه تكوين الذات في مواجهة خلاصاتها عن الحياة والوجود، ولكن ضمن حيز المكان، ولعنة الزمن.
إن الإحالات العميقة في الجزء الثاني من الكتاب تبدو لي شديدة التعالق بمستوى فلسفي يختبره أوستر، في ما يتعلق بكينونة الكتابة، والتمترس حول خطابات تبدد المقدس أو تلك المتعاليات الدينية، فلا جرم أن يتذكر الفيلسوف والراهب اليوناني جوردانو برونو (1548-1600) الذي اتهم بالهرطقة لتأييده التصورات العلمية للوجود، ولا سيما نظرية كوبرنيكوس.
إنها لعنة العزلة التي تتكاثف نتيجة جملة من الأسباب، كما نقرأ في الجزء الثاني، مع محاولة اكتناه تكوين الذات في مواجهة خلاصاتها عن الحياة والوجود، ولكن ضمن حيز المكان، ولعنة الزمن. هي عزلة تتعالى لتتحول إلى شيء يشبه اليقين، ولكن بلا دليل على وجود للذات التي تتنازعها الحيرة، فلا جرم أن تنتهي هذه الرؤية لنتيجة مفادها أن (الكتابة – الكتاب- اللغة) ربما تتحول إلى عزلة في مواجهة الكثير من تبعات العالم الفيزيائي البغيض، كما يتضح في كتاب الذاكرة أو الكتاب التع، الذي تناول ترجمة أوستر لكتاب فرنسي، إذ يصرح بأن كل كتاب متصل بعزلة، بما في ذلك عزلة المؤلف في باريس، وبعض الأمكنة، ولاسيما عند الترجمة أو التأليف، كما هي العزلة التي أستشعرها عند كتابة هذا المقال. هذا الاقتناص لصيغة العزلة تبدو من أعمق المفاهيم التي تلفتت لمعاني العزلة… يقول أوستر: «كل كتاب هو صورة للعزلة. إنه شيء ملموس يستطيع المرء التقاطه، ووضعه، يستطيع فتحه، وغلقه، وكلماته تمثل شهوراً من عزلة الكاتب».
٭ كاتب أردني فلسطيني