«اختلاق إسرائيل القديمة… إسكات التاريخ الفلسطيني»: ما لا يمكن إنكاره

تتسم الدراسات التاريخية التي تتصل بالأطر الثقافية قيمة خاصة، كونها تُعيد موضعة التّاريخ الذي يتعرض إلى عمليات منظمة من الإزاحة، والمحو، والإسكات، وكي نتمكن من فهم التعالق البنيوي بين الأكاديمية الغربية، ونشوء الكيان الصهيوني، ينبغي أن نعود إلى اكتناه تجربة خطابية تتصل بتمهيد غربي لتأكيد النموذج التوراتي اللاهوتي في تعريف فلسطين تاريخياً، بهدف محو التاريخ الفلسطيني، مقابل إثبات التاريخ الإسرائيلي.

القيمة والأهمية

لعل هذه العملية نتجت بفعل جهود عدد من المؤرخين والباحثين الغربيين، بمن في ذلك الباحثون اليهود، الذين مارسوا نوعاً من الانتهاك للوعي التاريخي الذي يتصل بالفلسطينيين، وتاريخ المنطقة، غير أنّ بعض الكتب تسعى إلى اكتناه الوقائع بعيداً عن الأيديولوجيات، أو الارتهان لنموذج وظيفي لا يتصل بالعلمية، ومن ذلك كتاب «اختلاق إسرائيل القديمة ـ إسكات التاريخ الفلسطيني» 1996 للباحث كيث وايتلام أستاذ الدراسات الدينية في جامعة أسترلنج، يحاول فيه أن يقدم قراءة شمولية لهذا البعد، ولاسيما اختبار مفاصل تاريخية مدعومة بمرجعية معرفية، مع بيان تعالقها مع البعد الاستعماري، ودعم كل ما سبق بجملة من المصادر التي تكشف عن عوار واضح في هذا المستوى، ضمن سياق الوعي الأكاديمي الغربي، الذي اعتمد الخطاب التوراتي بعيداً عن الأُطر الثقافية، أو التاريخية، وبذلك خرق القيم الموضوعية أكاديمياً.
لا نحاول في هذه المقاربة، أو هذا المقال تقديم الكتاب، أو عرض فصوله، ولاسيما أن الكتاب وجد صدى كبيراً، وكُتب عنه الكثير من المراجعات، حيث وصفه إدوارد سعيد بأنه «عمل أكاديمي من الطراز الأول» ما يعنينا هنا اكتناه المضمون العام للكتاب، ومقصديته، عبر اختبار مقولاته المركزية على ضوء الأحداث الجارية الآن في فلسطين، ذلك أنّ الصراع يتجاوز الأطر المادية، أو العسكرية إلى ما هو ثقافي ومعرفي، ونعني سياق التّحولات التي نتجت بفعل التنوير، الذي اكتسبه العالم على المستوى الشعبي من وعي بالأكذوبة التي نشأ عليها الكيان الصهيوني التي لم تكن سوى نتاج المرجعية الكولونيالية الغربية التي ما زالت ترى في هذا الكيان قاعدة إمبريالية تؤدي هدفا وظيفياً، غير أن هذا المسوّغ لم يكن ليستقيم ما لم تدعمه منظومة خطابية تعتمد تطوير البني المعرفية، أو خلق إطار معرفي تاريخي وهمي، من أجل خلق هذه الأكذوبة، ونقلها من إطار اللغة، أو اللاواقعي إلى إطار الحقيقة أو الواقع، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر أدوات خطابية تستهدف التاريخ ليكون موجّهاً، في حين تحيّد أي مروية أو سردية أخرى.

الإجراءات والدلائل

يختبر وايتلام حشداً من الدراسات التي تمارس التضليل المعرفي في خلق تاريخي يهودي زائف عبر تفعيل ما يمكن نعته بالدراسات اللاهوتية التوراتية، لكنه لم يكتفِ بعرض هذه الدراسات، إنما سعى إلى نقضها، ورفض منطلقاتها، علاوة على بيان ما يعتورها من قلق على المستوى الإجرائي المعرفي، وما ينطوي حولها من ظلال داكنة لأيديولوجيات مشبوهة، ابتكرتها أجسام سياسية تعتمد المنطلق الاستعماري. ينبغي أن نبتعد مسافة كافية عن طرح وايتلام، كي نرى أن الكاتب لم يكن يدّعي، أو ينطلق من توجه أيديولوجي، كما ادّعى بعض الباحثين الذين أزعجهم الكتاب… إنما اتكأ على رؤية واضحة لا يمكن التشكيك بها، كونها مدعومة بسلطة النص، والدلائل المادية، كما نقد قيم التحويل في الخطاطات التي احتملتها تلك المرويات التاريخية، التي استندت إلى سمتين: الفاعلية الكمية لا من ناحية التثبت من حقيقة ما فحسب… إنما من محاولة بث أكبر عدد من الكتابات والدراسات التي تتمحور حول التاريخ اليهودي في فلسطين، ومن ثم تتجلى السمة الثانية عبر محاولة إضفاء سمة الرصانة على هذه الدراسات من أجل الإيهام بأنها تنتمي إلى معرفة صلدة. يمكن القول إن مُساءلة تشكيل التاريخ اليهودي قد نهض ـ من وجهة نظر وايتلام ـ على الاكتناه النقدي للأساليب والافتراضات المستخدمة، بما في ذلك التحليل المفصل للأدلة الأثرية، أو علم الأركيولوجيا، وأحيانا إعادة تفسيرها مع الزمن، بالإضافة إلى استخدام النصوص الكتابية كمصادر تاريخية، غير أنه أضاف إلى ما سبق نقد الروايات الكتابية، كي يستكشف كيف صاغت روايات في الكتاب المقدس فهم الماضي الإسرائيلي، موظفة الأبعاد اللاهوتية والأيديولوجية.
يعتمد الباحث مرجعية النقد المنهجي، من حيث نقد المنهجيات المستخدمة في علم الآثار والتاريخ الكتابي، كما يؤكد افتقار هذه المقاربات للدقة نتيجة عاملين هما: تعقيد الأدلة، بالتوازي مع التحيزات الكامنة في التفسير التاريخي، وبصورة مركزية مقولة بناء إسرائيل القديمة، من حيث كيفية تشكّل المفهوم ضمن السياقات الدينية والسياسية والثقافية المعاصرة، لكن الأهم اختبار التأثير على الفهم الحديث، ومن هنا يُعد عمل وايتلام مهما، لأنه يتحدى بعض الآراء التقليدية حول إسرائيل القديمة، كما أنه يشجّع القراء على التفكير النقدي حول كيفية بناء التاريخ، وتأثير هذه البناءات على الهويات الدينية والسياسية المعاصرة. الكتاب يتحدّى الفهم التقليدي لإسرائيل القديمة عبر التأكيد على التاريخ الفلسطيني أو تاريخ فلسطين الذي جرى تجاهله غربياً. وهكذا فإن أي مناقشة حول إسرائيل القديمة يجب أن تتقاطع بالضرورة مع التاريخ الأوسع للمنطقة، الذي يشمل الأراضي والشعوب القديمة التي سكنت المنطقة، بمن في ذلك الفلسطينيون.

إشارات ووقائع

يتطرق الكتاب إلى مختلف المجموعات التي عاشت في المنطقة عبر التاريخ، بمن في ذلك الكنعانيون والفلسطينيون، الذين هم جزء من النسيج التاريخي لما يُعرف الآن بإسرائيل (فلسطين) غير أنّ الباحث يشير إلى أن الكتاب ليس تاريخاً لإسرائيل القديمة، أو حتى فلسطين القديمة، كما يذكر (الكتاب ترجمة سحر الهنيدي الذي صدر عن عالم المعرفة سنة 1996) لكنه يُعنى بالفاعلية الخطابية التاريخية لعملية التأريخ، والصيغ التي حاولت أن تحيّد قطاعا تاريخيا على حساب قطاع آخر، ما يقودنا إلى الوظيفة الحقيقية من الكتاب الذي تؤطره المقولة الآتية: «الكتاب أيضاً محاولة لإيضاح معالم ما يأتي «هي الفكرة القائلة إن تاريخ فلسطين القديم موضوع قائم بذاته، يحتاج إلى التحرر من قبضة الدراسات التوراتية».
إن فصل «إسكات التاريخ الفلسطيني» يبدو واضحاً، عبر إبراز قيم الإحلال والتعويض في عملية التأريخ لإسرائيل، كي يستهدف حجب التاريخ الفلسطيني، أو التاريخ الحقيقي لفلسطين، إذ يلاحظ أن تاريخ فلسطين من القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الثاني قبل الميلاد لا وجود له إلا بوصفه إطاراً لهذا الوجود المبتكر أو الطارئ؛ ولهذا تتخذ الأدلة الأثرية في تحليل وايتلام أهمية واضحة، بغية نقض هذا الرأي، أضف إلى ما سبق دلائل تعود إلى مجموعات متنوعة من الشعوب والثقافات التي عاشت في المنطقة، ومنها التي ينحدر منها الفلسطينيون الحديثون. إن فحص الروايات التاريخية لكيفية بناء تاريخ إسرائيل القديمة من خلال الروايات الكتابية والتاريخية، قد يرتبط بشكل غير مباشر بتاريخ فلسطين، وكيف أثرت هذه الروايات على التصورات الحديثة للأرض، وتاريخها؛ ولهذا يركز الكتاب بشكل أساسي على إسرائيل القديمة، فأي مناقشة حول هذا الموضوع قد تقودنا إلى فهم السياق التاريخي للمطالبات الإسرائيلية الحديثة بالأرض، التي لا تبدو سوى محاولة لجعل التاريخ على غير ما هو عليه حقيقة، وبذلك من المهم ملاحظة أنّ دراسة تاريخ إسرائيل القديمة، وتاريخ المنطقة بشكل أوسع يعدّ موضوعاً معقداً، وغالباً ما ينطوي على حساسية سياسية لدى بعض الباحثين الغربيين الذين يتبنون المروية الصهيونية.
نستخلص مقاصد الكتاب عبر تأمل واضح يقودنا إلى عدد من الملحوظات التي يمكن أن تضيء الرؤية العامة للكتاب، وتتلخص بأن الدراسات التوراتية – كما أسلفنا – ترى أنه لا وجود سوى لتاريخ إسرائيل القديمة، في حين أن الباقي ما هو إلا خلفية له، أو سابق لمعنى التاريخ، بل إنها تتجنب أي محاولة تدعو إلى خلق علم آثار يتعلق بفلسطين أو سوريا، على الرغم من أن تاريخ إسرائيل – إذا سلمنا بوجوده كما يُصور أو يُمثّل – لم يكن سوى تفصيل صغير وهامشي في سياق تاريخ المنطقة. إن الطعن في الدراسات الغربية يتأتى من كونها عمدت إلى تبني هذا المنحى، أو المنظور بما في ذلك دراسات آلستروم – على الرغم من موضوعيتها إلى حد ما – إذ يرى وايتلام أنه إذا سلمنا بعملية تحرير فلسطين من قيود الدراسات التوراتية، غير أن تاريخها سيبقى حكراً على العلوم الغربية، بالتوازي مع العوامل، أو الإكراهات الثقافية الإمبريالية، فالكتاب يضيف أن تاريخ فلسطين غالباً ما يُحصر بالفترة الحديثة، من أجل بيان قيم النفي والتشريد، في حين يتجاهل واقع الماضي، مع الإشارة في هذا السياق إلى محاولات بعض الباحثين الفلسطيني خلق مروية مضادة، ومنها أعمال أبو لغد، وسعيد، وطيباوي، والخالدي، وغيرهم، من منطلق بأن معضلة مقاربة تاريخ فلسطين ترتبط بالفعل السياسي، علاوة على ارتباطه بنشوء المتخيل الذي صاغ مقولات الدول القومية في أوروبا بما في ذلك الشرق الأوسط..
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه مُورس في تمكين هذا النهج تبني المختلق، أو الوعي الأسطوري ضمن فصل «نصوص منحازة وتواريخ متصدعة» ويبدو ذلك أقرب إلى النموذج عينه الذي نعاينه في الاستشراق، من حيث توفر العوامل الإمبريالية نتيجة الاستعمار الأوروبي. وفي فصل آخر ثمة إشارات إلى النماذج البحثية التي تنكر على الفلسطينيين وتاريخهم أيضاً عاملي: المكان الزمان، بل تتجاهل الاسم بالكلية، بالتضافر مع التزام مقولة واحدة تتمثل بأن فلسطين أرض الميعاد، فلا جرم أن تطمس وقائع السكان الأصليين، بالتجاور مع طرد فلسطين والفلسطينيين من الوعي، وتنميطهم مقابل مقولة (إسرائيل الحضارة) أو العقلاني، في حين أن الكنعانيين هم الآخر غير العقلاني، وهذا يماثل عملية خلق إسرائيل القديمة على صورة إسرائيل في العصر الحديث، في حين أنّ الوقائع تشير إلى أن الحضارة الكنعانية كانت متقدمة مقابل الوجود الإسرائيلي، الذي تميز بحضارة فجة وفقيرة ومادية كما جاء في الكتاب.
ولعل كل ما سبق نتج عن عدد من الإشارات ذات الطابع العلمي، التي نجملها بقلة الدلائل الأثرية، التي تتعلق بالوجود الإسرائيلي المختلق، فضلاً عن تداعي فكرة وجود مملكة داود، بالإضافة إلى تقيّد أساليب البحث العلمي الغربي بالنص التوراتي، كما ضعف البنى التحتية للادعاءات المتعلقة بوجود المملكة المتخيلة. وهكذا نخلص إلى محاولة ابتكار حقائق تتعلق بوجود إسرائيل لم تدعم بأدلة كافية، إنما هي نشأت بوعي كولونيالي إمبريالي واضح، وينبغي الدفاع عنه بأي وسيلة حتى عبر إبادة الشعب صاحب الحق في الأرض واقعياً وتاريخياً.

كاتب فلسطيني أردني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية