في كل فترة اعتادت أن تطل علينا قائمة فيها روايات لكتاب من أجيال مختلفة، وتوضح أن هذه أعظم مئة رواية كتبت، والأمر ليس عندنا فقط ولكن حتى في الغرب حيث تظهر تلك القوائم بأسماء ثابتة لا تتغير، وأخرى جديدة في كل مرة. وبما أن تلك القوائم توضع كأمور مسلم بها، وأنها نهائية، ويتداولها الناس بهذا الفهم، وتجد حتى كتابا مجيدين يرددون ما تحتويه بيقين كبير، فمن المفترض أن توضع الآلية التي يتم اختيار تلك النصوص بها، ولماذا اختيرت دون سواها، مع وجود كم هائل من الكتابات التي يصعب حتى النظر إلى أغلفتها، ناهيك عن تقليبها وقراءتها، وضمها لقوائم الأفضل.
هذا الموضوع يبدو لي مهما، أي مسألة الترشيح تلك، وأرى بصرامة شديدة أنه لا ينبغي أن توضع قوائم كهذه، ولا يلزم بها أحدا، فالقارئ المثابر، المتمكن، يستطع وحده تكوين قائمته من الكتب التي قرأها، وأكرر، التي قرأها وليس التي سمع بها، أو سمع سيرتها عند غيره. وأنا مثلا استطعت تكوين قائمتي الخاصة منذ فترة طويلة وأجددها في كل مرة، بحيث أضيف إليها، أو أسحب منها كتابا أعيد قراءته، وأجد فيه ما أظنه خللا، أو أجد تسرعا مني في تصنيفه عظيما. وتظل هناك كتب موجودة باستمرار مثل «مئة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، و«ثلج» لأورهان باموق، و«طرف من خبر الآخرة» لعبد الحكيم قاسم، و«فساد الأمكنة» لصبري موسى، موجودة في أماكنها لا تتزحزح.
وأظنني ذكرت مرة افتتاني في مرحلة ما برواية «خزي» لكوتزي، تلك التي تدور في بلده جنوب أفريقيا، وبطلها مدرس جامعي، يستدرج طالبة صغيرة إلى مجونه، ويسقط في ضياع لا ينتهي، ثم أعدت قراءتها مؤخرا، فلم أحس بذلك البريق الكبير، ولا ذلك الإشعاع الذي منحتني إياه في لحظة قراءتها القديمة منذ سنوات.
إذن تتكون القناعة كما يبدو، بتغير الزمن والظروف، ويبدو ما هو رائع في وقت ما، باهتا إلى حد ما، في وقت آخر، والعكس صحيح بالطبع.
وقد سألت مرة أحد المهتمين بقوائم الأفضل تلك، عن الآلية في الاختيار التي يستند إليها المجهولون الذين يضعون القوائم، فقال إنه التذوق بكل تأكيد، لأن المعايير الفنية موجودة بحذافيرها وربما أفضل، في نصوص أخرى خارج تلك القوائم، وكان ردا مطابقا لما أراه.
أتحدث عن مسألة اختيارات القوائم في الجوائز الأدبية أيضا، تلك التي انتشرت في الآونة الأخيرة، وأصبحت الشغل الشاغل للأدباء وغير الأدباء. الأدباء تغريهم بالكتابة بسرعة والتقديم لها، ومحاولة العثور على محكميها أو أشخاص مقربين من هيئتها للتوصية. وغير الأدباء تغريهم بالتحول إلى أدباء في غمضة عين، والركض في هذه السكة، عل ثمة وصول يحدث. وكلما أعلن عن جائزة جديدة، تراكضت إليها النصوص، وتقف البوكر طبعا على رأس تلك الجوائز المغرية، إنها حسناء الجوائز المزينة بأساور المستقبل الذهبية، وعقد الانتشار اللامع على جيدها.
وبالطبع هذا السباق المستمر، يعود في البداية لشح الموارد عند الأدباء الذين آمنوا بحرفة الأدب، واتخذوه مصدرا للقمة العيش، وما كان عند حسن الظن أبدا، وثانيا إلى محاولة الرسوخ في الساحة الأدبية، حين يحصل الأديب على جائزة.
ولأنني من السودان، يظن كثيرون أن لي يدا أو خيط تواصل متين بجائزة الطيب صالح السنوية، التي تقدمها شركة زين للاتصالات منذ رحيل الطيب، وأظنها بلغت عشر دورات حتى الآن. لذلك تنهمر علي الرسائل التي تستفسر مني عن احتمالات الفوز لأدباء قدموا لها، وأنا في الحقيقة بعيد كل البعد عن الجائزة، ولا أعرف بماذا أرد.
أيضا وجودي في قطر يجعلني هدفا لرسائل بلا انقطاع، عن الجائزة الكبرى التي تقدمها مؤسسة الحي الثقافي «كتارا» في كل عام، وتساعد كثيرا في دعم الأدب والأدباء. إنها أيضا جائزة حسناء، ومزينة، وفيها أدوات جذب كثيرة.
قوائم الجوائز تلك خاضعة بكل تأكيد للتذوق الشخصي للمحكم، ولن تكون قوائم نهائية تحت أي ظرف، بمعنى لو غيرنا طاقم المحكمين في العام نفسه، وأعطينا النصوص المقدمة للمحكمين الجدد، قطعا سيختارون نصوصا مغايرة، وربما يختاروا النصوص نفسها، أو بعضها، إن كان التذوق متقاربا.
أنا مثلا أحب اللغة كثيرا، أحب الصور الموحية، وتبدو لي النصوص الخالية من الإيحاءات، والتي تجنح للغة المباشرة، أو الواقعية الصرفة، أقل من مستوى تذوقي، لكن ذلك لا يمنع أن اختارها لجودة الحكاية، وما قد تحويه من معرفة للمتلقي.
وأعتقد وإن كنت لا أذكر جيدا أنني قرأت مرة في شروط التقديم لإحدى الجوائز بندا يسمح بتقديم الكتاب نفسه في العام التالي، إن لم يفز هذا العام، وهذا إن كان بالفعل صحيحا يعتبر إجراء ممتازا، وأشبه بالفرصة الثانية في كثير من الأمور الحياتية، قبل أن يحكم بالفشل.
لذلك كله، لا ينبغي أن يلعن أحد كتابته، أو يسأم منها، أو يهجرها لمجرد أنها لم تأت له بجائزة. رأيي أن يحب الناس ما يكتبون، ويستمرون في الحب والوفاء، ما داموا علقوا في هذا الدرب، نحن نلد أبناءنا، ونربيهم، ونصرف عليهم حتى يكبروا، ولكن لا نعلم إن كانوا سيرعوننا في المستقبل أم لا؟
كذلك الكتابة، نتعب فيها، وندفع للناشرين في بداياتنا حتى ننشر، ونحصل علي القليل حين نكبر، أي لا رعاية تامة ولا حتى ربع رعاية، من تلك الكتب التي رعيناها سابقا.
*كاتب من السودان
مقالة موضوعية ممتازة .. تحية لك