ها نحن نشهد نهاية سنوات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي “ملأ الدنيا وشغل الناس” بقراراته الغريبة وشخصيته المثيرة للجدل وأسلوبه الذي ينقصه الذوق، ولغته السوقية التي لا تليق برئيس دولة عظمى بل هي أقرب إلى لغة البلطجية والشبيحة. نحن، من صوتنا لبايدن، لا حبا به أو تعلقا بشخصيته أو قناعة بأسلوبه، بل نريد الإطاحة بترامب وعصابته من الأنجليكيين والصهاينة والبيض العنصريين. فرحتنا لا علاقة لها بفوز بايدن الذي وصف نفسه بأنه صهيوني حتى لو لم يكن يهوديا، ولكننا نريد أن نحتفل بسقوط الرئيس الطاغية الأقرب إلى حكام العالم النامي الذين يؤيدون الانتخابات إذا سخرت لخدمتهم ويشككون فيها إذا سارت في غير مصالحهم. وأود أن أستعرض بعض الأسباب التي جعلتنا نتمنى رحيل هذا الرئيس “الصدفة” الذي أساء للشعوب جميعها وأولهم الشعب الأمريكي ومكوناته العرقية والثقافية والاقتصادية.
داخليا
– أساء ترامب لمكونات الشعب الأمريكي جميعها وخاصة الأمريكيين من أصل أفريقي عندما انحاز للعنصريين البيض ولم يدن بشكل واضح وصريح الجرائم التي يرتكبها أنصار التفوق العرقي للبيض. وانحاز إلى عنف الشرطة الموجه ضد السود والذي يعادل ثلاثة أضعاف العنف الذي يواجهه البيض عند ارتكاب نفس المخالفة. لقد حاول أن يستخدم الجيش لمواجهة المظاهرات السلمية في حركة “حياة السود تهمني” ووعد بمزيد من الإنفاق على الشرطة بدل التوعية والتثقيف والتدريب.
– انحاز إلى حماية حملة البنادق والسلاح الآلي بدل أن ينحاز إلى حماية الأطفال والمصلين في المعابد والكنائس والمساجد. ورفض هو وأنصاره في مجلس الشيوخ تمرير قانون بسيط يدعو إلى التحقق من خلفية كل من يريد أن يشتري السلاح. في ايلول/سبتمبر الماضي فقط بيعت 1.8 مليون قطعة سلاح، كما بيعت ثلاثة ملايين قطعة في الشهور الثلاثة الأولى لجائحة كورونا. لقد قتل في عهد الرئيس بالسلاح الفردي أكثر من 100.000 مواطن.
– أساء ترامب للعرب والمسلمين وكان من أولى قراراته منع المواطنين من ثماني دول عربية/إسلامية من دخول البلاد (راجعها فيما بعد وأبقى منها خمسا) وهو قرار عنصري بامتياز، عندما يضع جميع المواطنين من بلد واحد في خانة الاتهام. كما أساء للمسلمين هنا في كل تصريحاته العنصرية عن الإسلام والإرهاب الإسلامي والدين الإسلامي الذي اتهمه بالتطرف وعندما سئل “وهل تتهم مليارا ونصف المليار بالتطرف فقال: كثير منهم متطرفون”. وقال “أظن أن الإسلام يكرهنا” كما اتهم اللاجئين السوريين المصرح لهم بالدخول إلى أمريكا بأنهم قد يكونون تابعين لـ “داعش” ما يجعل حصان طروادة أقرب إلى اللعبة. وبعد حادثة شارلي إيبدو في باريس عام 2015 هدد بإغلاق المساجد في الولايات المتحدة: “التي تبث الكراهية- الكراهية المطلقة التي تأتي من هذه الأماكن”. وتصريحاته حول نفس الموضوع كثيرة لا مجال لحصرها. إنه عنصري من طراز فريد لا مثيل له عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين.
– أساء ترامب للأمريكيين من أصول لاتينية واتهم المهاجرين من المكسيك بأنهم “مجرمون وتجار مخدرات” كما أقام سورا إلكترونيا بين البلدين وأقام أقفاصا صغيرة يحتجز فيها أكثر من 550 طفلا أخذوا عنوة من أهاليهم الذي طردوا من البلاد لأنهم مقيمون غير شرعيين. وكل محاولات إبقاء الأطفال مع آبائهم وعدم تشتيت العائلات باءت بالفشل. وقد أطلق على قافلة من اللاجئين من أمريكا اللاتينية كانت متجهة نحو الحدود الأمريكية اسم “غزوة” وأغلق الحدود أمامهم.
– أساء ترامب للملايين من الطبقات الفقيرة والمتوسطة عندما أوقف العمل بالتأمين الصحي المعروف “أوباما كير” ولم يقدم أي بديل مقبول، كما أنه رفع الضرائب على ذوي الدخل المتوسط بينما أعفى كبار الأغنياء والشركات من الضرائب ما أدى إلى زيادة عدد أصحاب المليارات في عهده بشكل غير مسبوق وزادت ثرواتهم بقيمة 800 مليار دولار.
لقد أساء ترامب لكل الشعب الأمريكي عندما استخف بجائحة كورونا وقلل من خطورتها وعندما اكتشف عمق المصيبة التي أدخل فيها البلاد حيث بدأ الفيروس يحصد عشرات الآلاف من الأرواح راح يوزع اللوم على الآخرين من الصين إلى منظمة الصحة العالمية إلى رئيس مركز الأمراض المعدية أنتوني فاوتشي.
عربيا
هل هناك عربي /عربية لم يشعر بالإهانة من الطريقة الفوقية والعنجهية التي تعامل بها مع العرب جماعات وأفرادا؟ زيارته الأولى للمنطقة كانت بداية التحقير والإساءة عندما جرف 460 مليارا من أموال السعودية في 22 أيار/مايو 2017 ثم طار في رحلة مباشرة من الرياض إلى تل أبيب. وكم كانت تلك الرحلة مؤشرا على ما سيأتي سواء من ضرب دول الخليج في بعضها البعض للمزيد من شفط الأموال ودعم الحرب التي شنتها السعودية والإمارات على اليمن قبل اللقاء بشهرين لبيع مزيد من السلاح، أو فتح الخطوط بين الدول العربية وإسرائيل.
أما رعونة ترامب فقد بلغت مداها في تعامله مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص. فلا أعتقد أن هناك عربيا شريفا واحدا، لم يشعر بالإهانة حتى على المستوى الشخصي وهو يعلن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ثم ينقل مقر السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ويغلق القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية ويتبع ذلك بإغلاق ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن ويقطع المعونات المالية عن وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” ثم يعترف بأن الجولان أرض إسرائيلية ثم يتبع ذلك بصفقة تصفية القضية الفلسطينية التي سماها “صفقة القرن” بحضور ثلاثة سفراء من محميات الخليج. هذه الخطوات المتلاحقة عبارة عن عدوان لكل ما يمثل الحق والعدل والقانون والعلاقات الدولية. أعاد تجربة بلفور وقد لا تكون صدفة أن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل جاء في الذكرى المئوية للوعد المشؤوم ليكمل ترامب مسلسل العدوان الأوروبي الأمريكي على الأمة العربية وتاريخها وحاضرها ومستقبلها تحت غطاء من أنظمة خانعة لا تملك من قراراها شئيا.
وهنا أود أن أسال بعض العرب والفلسطينيين الذي صوتوا لترامب، على قلتهم (69 في المئة لبايدن و 17 في المئة لترامب) ألا تعني لك القدس شيئا؟ ألا تهتم بشؤون اللاجئين الذي طردوا من أرضهم بغير حق؟ ألا تهمك مسألة تصفية القضية الفلسطينية؟ كان الجواب يتردد “ترامب أفضل للبزنيس”. هل نفهم أن “البزنيس” أهم من فلسطين وقدسها ولاجئيها؟
كيف لا يشعر الإنسان بالمهانة وهو يقلد صوت الملك السعودي وهو يتصل به هاتفيا ليطلب منه ملايين الدولارات ويحصل عليها أسهل من تحصيلة 135 دولارا من مستأجر. “أيها الملك نحن نحميك. فقد لا تبقى أسبوعين في الحكم بدون حمايتنا. وعليك أن تدفع”. هذا الازدراء غير المسبوق يقابل بالصمت من السعودية وهنا تأتي صورة المهانة التي يشعر بها الإنسان العادي من هذا الأسلوب الأرعن.
تابع ترامب مسلسل الأضرار التي ألحقها بالقضية الفلسطينية بعد “صفقة القرن” حيث أطلق مسلسل تطبيع العلاقات بين إسرائيل ومحميات دول الخليج والتي لم يعد مقبولا منها ممارسة العشق السري مع الكيان الصهيوني. وبعد مهرجان التطببيع بين الإمارات والبحرين مع الكيان قام بمساومة السودان على محو اسمه من قائمة الإرهاب مقابل دفع مبلغ من المال والانخراط في مسلسل التطبيع بعد أن تأكد أن بعض القادة العسكريين على استعداد للمساومة على كرامة السودان من أجل حمايتهم شخصيا من المحكمة الجنائية الدولية وتسهيل أخذ قروض من المؤسسات المالية الدولية.
باختصار المنطقة التي حقق ترامب فيها من إنجازات هي منطقة الشرق الأوسط وكلها لصالح إسرائيل وليس بالضرورة لصالح الولايات المتحدة.
دوليا
الخراب الذي سيتركه ترامب مع حلفاء الولايات المتحدة وخاصة في أوروبا عميق. فأكثر من مرة وقفت الولايات المتحدة بمفردها في مجلس الأمن دون حلفاء. وفي محاولة لتجديد العقوبات الدولية على إيران لم تجد سفيرة ترامب، كيلي كرافت، من يقف معها غير الجمهورية الدومينيكانية. وفي مسألة القدس لم تجد نيكي هايلي السفيرة السابقة إلا يدها مرفوعة بعد أن صوت 14 عضوا في المجلس لصالح قرار اعتبار القدس الشرقية أرضا محتلة وضرورة الإلتزام بقرارات المجلس السابقة المتعلقة بالمدينة.
لقد أساء ترامب لحلفائه الأوروبيين وأعضاء حلف الناتو وجيران الولايات المتحدة وفشل في انقلاب دبره ضد مادورو في فنزويلا وتآمر على موراليس في بوليفيا، لكن حزبه عاد بقوة إلى السلطة. أساء للصين لكنه احتضن دكتاتور كوريا الشمالية وظل على علاقات مميزة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورؤساء شعبويين آخرين مثل مودي الهند وبولسونارو البرازيل وجونسون بريطانيا ونتنياهو والمحمدين.
لقد أساء ترامب للمنظمات الدولية جميعها، فقد انسحب من اتفاقية باريس للمناخ وانسحب من منظمات اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية وأوقف تمويل الأونروا. كما وضع أسماء قضاة المحكمة الجنائية الدولية على قائمة الممنوعين من دخول الولايات المتحدة في انتهاك فاضح لاتفاقية الحصانة الدبلوماسية واتفاقية الدولة المضيفة مع منظمة الأمم المتحدة. لقد استخف بالعمل الجماعي والسياسة متعدد الأطراف والدبلوماسية الوقائية القائمة على اتفاقيات الشراكة والعمل المنسق بشكل جمعي، لذلك انتهي به الأمر إلى عزلة دولية لا يجد من يقف مع سياسته إلا حفنة من الدول بعضها قد لا تستطيع تحديد موقعها على الخريطة.
فهل عرفتم الآن لماذا سنحتفل بنتائج هذه الانتخابات؟ فرحتنا ليست ابتهاجا بفوز بادين- هاريس بل برحيل الثنائي ترامب –بينس اللذين ألحقوا بكل واحد منا شيئا من الأذى والضرر والإهانة.
كلنا سعداء بأن نفيق من هذا الكابوس الثقيل، تظل صعوبات الواقع أخف منه وطأة.
لقد قام العرب الامريكيون بواجبهم، وساهموا في إزاحة الكارثة العالمية ترامب. سيزول هذا السوسيوبات، لكن السياسة الخارجية الامريكية في الشرق الاوسط لن تتحسن، سيعود الديمقراطيون إلى دعم الصهيونية بأسلوب لائق، بخطابات راقية ووجوه لا تفارقها الابتسامة. سيذيقنا الديمقراطيون المهذبون بزعامة بايدن وهاريس المزيد من العذاب، عبر التمكين النووي لإيران الذي شجع السباق النووي في المنطقة، وسيواصلون جني مئات المليارات عبر تسليح دول الخليج وتأجيج الحروب ذاتها. أما نائبة الرئيس، السيناتور هاريس فيكفي التذكير بأنها تؤيد المستوطنات الاسرائيلية غير الشرعية، وتؤيد الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية، وتتهم الحملات الداعمة لحركة مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات على البضائع المصنعة في المستوطنات، بأنها مناهضة للسامية. هنيئا للعرب بزوال الكابوس ترامب، لكن يجب خفض سقف التوقعات تجاه الديمقراطيين في ظل استمرار السياسة الخارجية في الشرق الاوسط، مهما كان مستأجر البيت الأبيض.