لا توجد لحظة عديمة الشأن في تركيا. فبعد 26 شهرا من اعتقال الجنرال الكر باشبو وهو اعتقال ضر ضررا شديدا بالعلاقات بين الجيش والحكومة في تركيا أُفرج عنه يوم الجمعة. وقد حكم على باشبو وهو رئيس الاركان الـ 26 لتركيا، في آب الماضي بالسجن المؤبد بعد أن أُدين بالمشاركة في قضية ارغانكون، التي كشفت عن مؤامرة لاسقاط نظام الحكم، وقد طلب مدة سجنه عدة مرات رفع استئناف الى محكمة النقض لكنه رُفض بذريعة أن المحكمة التي حكمت عليه بحكم السجن لم تعرض تعليلاتها، ولا يوجد أساس للاستئناف بغيرها. ووافقت المحكمة الدستورية فقط آخر الامر على النظر في استئنافه، وخلص قضاتها بالاجماع الى استنتاج أن باشبو ظُلم ظلما جوهريا بسلبه حقه في الاستئناف. وتبين أن جهاز القضاء لم يفقد الى الآن قدرته على تأدية عمله. إن باشبو ابن الـ 71 هو جنرال عظيم الفضل تولى مناصب رفيعة في عشرات سنوات خدمته منها أنه كان رئيس قسم البحث في قسم السياسة في سلاح المشاة، وكان قائد قسم اللوجستيكا والبنى التحتية في القيادة العليا لحلف شمال الاطلسي، وكان نائب الامين العام لمجلس الامن القومي، وكان قائد القوات البرية، ونائب رئيس هيئة الاركان، وأصبح رئيس هيئة الاركان في 2008. وهو معروف جيدا في القيادة الامنية العليا في اسرائيل بسبب علاقاته الممتازة بقادة الجيش وجهاز الامن وتشمل علاقة شخصية برئيس هيئة الاركان غابي اشكنازي. وكان يوصف احيانا بأنه ‘ممثل اسرائيل’ في الجيش التركي، وبرغم أنه أظهر مواقف مضادة للدين فانه لم يحجم عن زيارة الحائط الغربي حينما زار اسرائيل، مرة في 2004 ومرة اخرى في 2008 وهي زيارة نشرت بعدها الصحيفة الاسلامية ‘وقت’ صورته وهو يعتمر قبعة دينية ويستند الى الحائط. إن باشبو مثل سلفه يشار بويوكانيت، أبغض حزب العدالة والتنمية لرجب طيب اردوغان، وهو الذي عرّف الاسلام السياسي في تركيا بأنه تهديد أمني. وقد صرح في 2006 أمام مبتدئين في الخدمة العسكرية بأنه ‘تجري محاولات متعمدة ومنهجية لسحق انجازات الثورة الكمالية. إن تسييس الدين ستضر به هو نفسه’. فلا عجب لذلك أن زعمت صحيفة ‘زمان’ حينما عُين رئيسا للاركان وهي التي يملكها فتح الله غولان، الذي كان آنذاك حليفا لاردوغان وأصبح اليوم عدوه اللدود، أن ‘التعيين رسالة حادة واضحة من الجيش الى الحزب الحاكم’. في 2008 أُتيحت لباشبو فرصة لمحاولة اغلاق حزب العدالة والتنمية على أساس قانوني. فبعد أن قال اردوغان في مقابلة في التلفاز التركي إنه ‘حتى لو كان النقاب رمزا سياسيا فلا يجوز حظر لبسه’، أسرع المدعي العام عبد الرحمن يلتشنكايا بتشجيع من عناصر رفيعة الرتب في الجيش، الى محاكمة قيادة الحزب وفيها اردوغان والرئيس عبد الله غول. وقررت مادة الاتهام أن الحزب أصبح ‘مقرا مركزيا’ لنشاط معادٍ للعلمانية في الدولة. ونجا الحزب من المحاكمة بصعوبة وقُلصت المساعدة الحكومية التي كانت تعطى له بمقدار النصف لكنه لم يُغلق. ومن المثير للاهتمام أن أحد القضاة في المحكمة الدستورية التي بحثت آنذاك في شأن الحزب بل أوصى باغلاقه كان عثمان الفياز بكسوت الذي هو اليوم نائب المحكمة الدستورية التي حكمت في الاسبوع الماضي في قضية باشبو. فيبدو أنه يوجد لمصاب بجنون المطاردة مثل اردوغان احيانا أساس لعدم ثقته العميق بجهاز القضاء. وهنا جاء التحول: فعلى إثر قرار المحكمة اتصل اردوغان بباشبو ليهنئه بالحكم. لأنه في اطار هجوم رئيس الوزراء القوي على السلطة القضائية التي شُحنت في زعمه بالموالين لغولان، أصبح يبحث الآن عن كل دليل ممكن على أن الحديث عن مؤسسة خائنة تطمح الى اسقاط نظام الحكم، فلم يعد الجيش هو التهديد الرئيس الذي يغطي الحكومة بل حلت محله المنظمة المتشعبة العظيمة التأثير للجالي في فيلادلفيا، الذي ‘يُرقص تركيا وكأنها دمية في خيط’، كما قال أحد منتقدي غولان. واردوغان شديد الغضب على جهاز القضاء وعلى المُدعين خصوصا الذين يتهمهم بتسريب مواد من التحقيق في قضية الفساد الضخمة التي شارك فيها في ظاهر الامر ابنه بلال وربما شارك فيها هو نفسه ايضا، حتى إنه قدّر أن يطلب اعادة المحاكمة لكل الضباط ورجال الحياة العامة الذين حُكم عليهم في قضية ارغانكون. إن الافراج عن باشبو قد يدفع قدما بحملة الاضطهاد التي يقوم بها اردوغان على جهاز القضاء لأنه تبين أنه من بين المؤثرين الـ 275 في قضية ارغانكون يوجد سجناء تم الاعتداء على حقوقهم في الاستئناف ويتوقع أن يرفعوا في الايام القريبة استئنافات الى المحكمة الدستورية. لكن اردوغان لا يدع النضال في سائر الجبهات التي تهدد مكانته. وإن اعلانه في يوم الخميس الماضي في مقابلة صحفية لشبكة التلفاز ‘هابر’ بأنه سيزن اغلاق يو تيوب والفيس بوك بعد انتخابات السلطات المحلية التي ستجري في نهاية الشهر يثبت أنه غير مستعد لأن يُمكّن أية وسيلة اعلامية من التهرب من تحت صولجان حكمه. فاذا لم يكن من الممكن شراء فيس بوك كما اشترى رضوخ كثير من الصحف التركية، فلا مناص من اغلاقها. لكن اردوغان دُفع هنا كما في مرات في الماضي الى مواجهة مع رئيس الدولة الذي سارع الى بيان أنه ‘لا يمكن أن ترجع الحرية الى الخلف’. اجل إن للرئيس غول ايضا الذي ينهي ولايته هذا العام مطامح سياسية وأصبح يميز نفسه عن اردوغان.