اسبانيا مملكة كروية!

فوز اسبانيا بذهبية الأولمبياد على حساب منتخب البلد المنظم بالخمسة جاء يتوجها ملكة على الكرة الاوروبية في كل الأصناف والمسابقات والبطولات، مباشرة بعد تتويج الكبار بلقب كأس أمم أوروبا في ألمانيا، وقبلها تتويجهم بدوري الأمم الأوروبية السنة الماضية، على غرار السيدات اللواتي فزن بكأس العالم 2023 ودوري الأمم الأوروبية، اضافة الى تتويج سيدات أقل من 17 و19 سنة، ورجال أقل من 19 سنة و21 سنة باللقبين الأوروبيين، في سيناريو مثير للانتباه، لم يأت صدفة على مستوى لا مجال فيه للصدفة، لكن يبقى مثيرا للتساؤلات، ليس من باب الحيرة، لكن من حيث محاولة البحث عن الأسباب والمقومات والاستراتيجيات التي أدت الى تحقيق إنجازات جماعية كبيرة بهذا الشكل.
من الوهلة الأولى يبدو أن إسبانيا تتوفر على مؤثرين اسبان في صنف السيدات والشبان من المستوى العالي، يشرفون على مختلف المنتخبات، انتشر أغلبهم في عديد البلدان الأوروبية بالخصوص، وتملك أنديتها مواهب كروية اسبانية كثيرة في الأصناف الشبابية التي تطغى عليها الجنسية الاسبانية وليس الأجنبية في كل الأندية الاسبانية، بما في ذلك البارسا والريال والأتلتيكو التي تعتمد في فرقها الأولى على نجوم عالميين، لكن مدارسها الكروية ثرية بالمواهب التي صنعت الفارق على مستوى المنتخبات الشبابية، بثقافة كروية ملائمة لمقومات شبانها، قريبة من منظومة لعب البارسا التي سيطرت بها على أوروبا لسنوات، وتحولت مع الوقت الى استراتيجية لكل المنتخبات، أثبتت نجاعتها وفعاليتها وملائمتها للاعب الاسباني.
قبل سنوات قامت انكلترا بتكليف لجنة مختصة لدراسة أسباب فشل المنتخب الإنكليزي الأول، وكل المنتخبات الشبابية في تحقيق البطولات والألقاب، فتبين لها أن كثرة اللاعبين الأجانب في كل الأصناف أثرت سلبا على المنظومة الكروية الانكليزية التي ركزت على استقطاب النجوم في الأندية الكبيرة، وأهملت التكوين والاهتمام بالمواهب المحلية الشابة رغم بروز بعضها، لكن افتقادها لهوية اللعب التي يملكها الاسبان، ونقص المؤثرين والمدربين المحليين القادرين على صناعة الفارق، وكذا انعدام تصور شامل طويل المدى خاص بالفئات الشبابية، كلها عوامل أثرت سلبا على المردود والنتائج، و أدت الى فشل المنتخب الأول في تحقيق اللقب الأوروبي رغم بلوغ نهائي كأس أمم أوروبا مرتين متتاليتين.
بعد التتويجين الأخيرين للمنتخبين الأول والثاني في ظرف شهر واحد بكأس أمم أوروبا والذهبية الأولمبية، عاد الحديث عن الوصفة السحرية التي سمحت للأسبان بالسيطرة على أوروبا والمنافسة على كأس العالم في كل الفئات رغم إخفاق المنتخب الأول في النسخ الثلاث الأخيرة، والذي يعود الى معطيات موضوعية تتعلق بمنتخبات أخرى كانت أقوى منها، على غرار ألمانيا سنة 2014 في البرازيل وفرنسا سنة 2018 في روسيا، والتي تتألق بدورها بفضل مدارسها الكروية التي أسست لمنظومة لعب تصنع الفارق فنيا وتكتيكيا بفضل أجيال متعاقبة من اللاعبين المتميزين الفرنسيين أو مزدوجي الجنسية من أصول افريقية تكونوا في مختلف المدارس الفرنسية، وانتشروا في أكبر الأندية الأوروبية فازدادوا قوة وحنكة وخبرة ضمن استراتيجية بدأت مع مونديال 1998.
التألق الاسباني بدوره بدأ مع يورو 2008 عند الكبار، ثم مونديال جنوب افريقيا سنة 2010، وبعده تكرار التألق الأوروبي سنة 2012، والذي رافقه عمل كبير على مستوى الفئات الشبابية وفي كل الرياضات، امتدادا لمنظومة رياضية تأسست في السبعينات تحت اسم المجلس الأعلى للرياضة، الذي أعيدت هيكلته بعد أولمبياد برشلونة سنة 1992، ركز على الرياضة الجماهيرية والمدرسية والجامعية، واهتم بالبحث عن المواهب في القرى والأحياء الشعبية، وتقنين الممارسة الرياضية المحترفة، مع الاعتماد على تكوين الإطارات والاهتمام ببناء المنشآت الرياضية، وبالتالي تخصيص الموارد المالية التي تسمح بصناعة الرياضيين ومختلف المنتخبات الشبابية التي صارت تفوز وتخسر، تتألق كثيرا وتخفق قليلا، لكنها ما زالت مبنية على خطة وفلسفة وثقافة طويلة المدى، يعتبر فيها المورد البشري رأسمالا حقيقيا، اذا أضيف له المال كما هو الحال في الريال والبارسا، يزداد قوة على قوة، سمحت للأندية الاسبانية خلال العقد الأخير باحراز ستة ألقاب في الدوري الأوروبي وخمسة في دوري الأبطال.
إعلامي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية