اسبوع روايات الجهاد والمناضلات العاريات على الفضائيات التونسية

حجم الخط
0

كانت الجمعة قبل السابقة في تونس جمعة اغتصاب بامتياز. انتظمت فيها الفضائيّات التونسيّة في وضع استعراضيّ لكشف جرائم الاعتداء على شرف الأطفال والنساء ما تقدّم منها وما تأخّر.
ولكنّ تناولها للموضوع لم يخل من التسرع، ربّما بسبب حساسيّة التصدّي لمسألة كانت تدخل ضمن المسكوت عنه. وقد أفتت جميع قنواتنا لنفسها بالحديث في الموضوع باعتباره فرض عين، أي أنّ ذكره واجب على كلّ فضائيّة وعلى كلّ برنامج فيها، واتخذت بعض البرامج من ذلك المحور مسلسلا دراميا تعدّدت حلقاته وضحاياه من الشهود الذين اعتدي عليهم. وأكثر ما صدم الناس لم يأت في برامج البكاء والنحيب التي تبثّها حنبعل والتونسيّة بتقديم متزامن من الأخوين عبد الرزاق وعلاء الشابي، وإنّما جاء في برنامج ‘لاباس’ المنوّعة الخفيفة المسلّية التي أصابتنا برشّ من التقارير والشهادات آخرها لفتاة اعتدى عليها والدها (والعياذ بالله)…وهكذا قضى التونسيون أسبوعا ثقيلا ينامون ويستيقظون على أخبار الاغتصاب والمغتصبين بعد أن مرّت عليهم جمعة الجهاد بأنواعه ومنها جهاد المناكحة بفتوى باطلة أخذت حظّها من العرض والتعريض في هذه الزاوية بأقلام صديقة… ويبدو أنّ الجهد المبذول في قنواتنا العامّة والخاصّة حقّق هدفا رئيسيّا بنشره لحالة من الفوبيا بين المواطنين الخائفين على أبنائهم وبناتهم. فقد أحدث دَويُّ ما رُوي وتناقلته المواقع الاجتماعيّة انطباعا أظهر تونس وكأنّها في مرتبة متقدّمة عن الهند حيث تغتصب امرأة كلّ عشرين دقيقة.
وتواجه مؤسّسات رياض الأطفال أزمة ثقة حادّة بعد الحادثة المؤلمة التي تضرّرت منها ابنة الثلاث سنوات في روضة تعمل بدون ترخيص. ولكنّ اللافت في كلّ ما قيل وما أثير عن تلك الاعتداءات (التي يتوجّب مقاومتها بأقصى عقوبة ممكنة)، هو الربط المفتعل بينها وبين رياض الأطفال القرآنيّة التي تعمل على تربية الناشئة على أسس إسلاميّة. وقد عرّجت نشرة أخبار الثامنة عليها في خبر يتعلّق بالنشاط التجاري الذي لا يخضع للتراتيب والقوانين المحلية في مؤسّسات رعاية الطفولة… وفي أخبار الوطنيّة الأولى، ذكر ذلك الخرق للقوانين، بخصوص رياض الأطفال التي تعمل دون ترخيص، ولكنّ التجريح تجاوزها إلى الكتاتيب القرآنيّة وكأنّها مرتع للمجرمين والمنحرفين، الأمر الذي قد يحدث تشويشا لدى جمهور يتعامل مع الخبر بطريقة سطحيّة تدفعه إلى استنتاجات خاطئة. واللوم في ذلك لا يسلّط على الجمهور وإنّما على الذين يقصفونه بتقارير إخباريّة فيها من التصنع الشيء الكثير الذي يخلق ما سمّته أحلام مستغانمي بـ’فوضى الحواسّ’. والعنوان يصلح لقراءة ما حدث في تونس وعن تونس طيلة الأسبوعين السابقين حيث تداخلت روايات الجهاد والاغتصاب مع صور ‘المناضلات’ العاريات أمام سفاراتنا في الخارج نصرةَ لأمينة المختفية منذ فترة. وفي سياق ذلك التعرّي وما يثيره من الفوضى، عبّر الطاهر بن حسين صاحب قناة الحوار التونسي عن استعداده للتخلّص من ملابسه تضامنا مع قناة التونسيّة كي لا تباع أو تغلق.

اهانة رئيس الدولة

بعد هجوم شنيع من تلك القناة على الرئيس التونسي المنصف المرزوقي ازددت يقينا أنّ وضعنا في تونس أفضل بكثير من وضع أشقّائنا في مصر. ففي تونس يُشتم الرئيس ليلا نهارا، ويتعرّض للإساءة بشتّى الطرق، ويُنعت بكلّ الأوصاف القبيحة دون أن يلتفت إليها. وفي ذلك برهانان، أوّلهما دليل على سقوط أخلاقيّ لمن يسوّق لتلك الشتائم بدعوى حريّة التعبير، والثاني إثبات لسعة صدر الرئيس ورحابة فكره وقبوله للنقد مهما كان لاذعا، على عكس ‘زميله’ في الرئاسة محمّد مرسي الذي حرّك القضاء لملاحقة باسم يوسف وأمثاله ممن ‘يهينون رئيس الدولة’ ولو بدعابة بريئة.
ولأنّ ذلك الإجراء حقّق عكس نتائجه في أمّ الدنيا، فإنّنا نتوقّع أن يواصل الرئيس المرزوقي تجاهله لما يقال عنه مهما بلغ من درجات الشطط والافتراء. وفي هذا السياق، تابعنا مشهدا سينمائيا استخدم للتشنيع عليه في البرنامج المنوّع ‘كلام الناس’ الذي يستضيف عددا كبيرا من أهل الفنّ والسياسة فيقع التداول عليهم محاورةً ومساءلة الواحد تلو الآخر، حتّى تطول السهرة وتتمدّد بسبب كثرتهم، ونظرا لتدخّلات الصحفيّة مي القصوري التي حطّمت كلّ الأرقام القياسيّة المتعلّقة بتشعّب أسئلتها المتحوّلة غالبا إلى محاضرات لا محلّ لها من الإعراب، وحضورها في ذلك البرنامج من قبيل الاسلوب المنفّر لفئة من المشاهدين. وفوجئ الجمهور من جهة أخرى بإقحام الرئيس المرزوقي في مشهد سينمائيّ بذيء اقتطع من فيلم أجنبيّ، في سياق فقرة جديدة تستعمل الأفلام السينمائيّة لنقد الشخصيّات العامّة بعد إضافة أسمائها واصطناع أقوال بديلة عن الحوار الأصليّ للممثّلين. والفكرة طريفة ولكنّها لا تخلو من مزالق خطيرة كما حدث في المشهد حيث يتم اظهار المرزوقي في خلوة وحوار رومانسي وأقوال مقحمة على المشهد.
والمشهد بتلك الإيحاءات ينطوي على مخاطرة إعلاميّة غير محسوبة، وتجاوز مقصود للقيم الإسلاميّة وإقحام الحوار والأسماء بذلك التعسّف على مشهد من فيلم أجنبيّ يسقط النقد والنقّاد في ركاكة لا تحمد عقباها ويجعلها بذاءة من الوزن الثقيل.

فنّ السخرية من الرؤساء

في مقابل تلك البذاءة، تقدّم لنا البرامج الأجنبيّة الساخرة أمثلة يستفاد منها لتحسين الأداء في ذلك اللون الإعلاميّ الذي ظهر عندنا حديثا مع بركات الربيع العربيّ. ونتابع نحن- سكان المغرب العربيّ- ما تبثّه القناة الفرنسيّة كنال بلوس في مساحتها المفتوحة، من تقارير ساخرة يعرضها البرنامج الإخباريّ الخفيف ‘الجريدة الصغيرة ‘ (Le petit journal)، وفيه، نال الرئيس الفرنسي هولاند نصيبا وافرا من التهكّم على هامش زيارته الأخيرة إلى المغرب من خلال تقرير طريف واكب الاستقبال الذي خصّه به الملك محمّد السادس. واعتبر التقرير زيارة هولاند فسحة وهروبا لنسيان فضيحة وزير الخزانة جيروم كاهوزاك بعد اكتشاف تهرّبه الضريبي وامتلاكه لحساب مصرفيّ خارج فرنسا. ولكنّ الصياغة الساخرة حوّلت تلك الفسحة إلى عقاب يلائم حجم الفضيحة. فتمّ التركيز على مراسم تدشين ‘محطّة تصفية المياه العادمة’ بمدينة مديونة، ما أثار جملة من التعاليق الشامتة بالرئيس هولاند وهو يتنقّل بين أجزاء المحطّة فيمرّ بمستودع حاويات القمامة، ثمّ بخزّان المياه المستعملة ومنها تنبعث الروائح الكريهة لتدغدغ أنوف أصحاب الفخامة والجلالة… وبذلك الأسلوب الساخر الخفيف، ينتقد الإعلام الحرّ رئيسا وعد شعبه في حملته الانتخابيّة ‘بجمهوريّة نموذجيّة’، ولكنّ العثرات والوقائع كذّبت ذلك الشعار، فالبطالة في تصاعد مستمرّ والاقتصاد في حالة من الجمود المخيف، ووزير الخزانة يلخّص المثل القائل ‘حاميها حراميها’…
وعلى أساس تلك المفارقات الصارخة، مثّل تقرير ‘الجريدة الصغيرة’ عيّنة ناجحة في مجال صناعة السخرية باعتبارها فنّا لا ينبغي أن ينقلب إلى مجرّد إساءة مجانيّة بأساليب بالية تقوم على الإقحام والإسقاط وركوب البذاءة شكلا ومضمونا.

كاتب تونسي
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية