مبدأ السيادة والاستقلال لا يقتصر على الدول العظمى أو القوية فقط، فجميع الدول بموجب المواثيق الدولية متساوية في الحقوق والالتزامات الصغرى منها والكبرى. والجمعية العامة للأمم المتحدة من وقت إنشائها إلى اليوم، أصدرت قرارات عديدة، وحثت على عدم تدخل الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، أو ممارسة أي نوع من أنواع الضغط والإكراه، على اعتباره عملا لا يستند إلى أي مشروعية. لكن القوى المنتصرة في الحرب العالمية، التي وضعت قواعد النظام الدولي على أساس مركزية منظمة الأمم المتحدة في هذا النظام، لم تعط أهمية لهذه المنظمة، بل على العكس من ذلك، عملت على احتوائها إلى جانب بقية الهيئات الأممية، لتنفيذ مخططاتها الجيوسياسية للهيمنة، واستعباد الشعوب وتخريب الدول وسرقة ثرواتها، والسيطرة التامة على مراكز الطاقة ومصادر إنتاجها.
الحالة العربية عاجزة عن تجاوز التقسيمات القبلية والإثنية والدّينيّة والطائفية التي غذّتها بطبيعة الحال عوامل داخلية، وعملت قوى خارجية على تجذيرها
مشروع تفكيك الدول من الداخل، وإثارة الفوضى الأهلية والنعرات الطائفية، يتواصل منذ سنوات في أكثر من دولة شرق أوسطية، وإشكالية الهوية السياسية التي لم تُحل بعد، ولّدت مشاكل كبيرة في ترسيخ مفهوم المواطنة، ضمن إطار الدولة، مقابل انتشار الأطروحات الأممية والإثنية. في الأثناء مشاريع التقسيم التي بدأت منذ مطلع القرن العشرين، هي استثمار إمبريالي لا يعرف الحدود، ما انفكّ يترك الجسم السياسي للأمة كسيحا مهزوما.
ولم تجن معظم دول المنطقة من تفاقم الثورة المعلوماتية والرقمية، والدور الذي تلعبه الأقمار الصناعية، ومختلف تأثيرات التكنولوجيات الحديثة في مجال الإعلام والاتصال، سوى تزايد أعمال الجوسسة، وعدم قدرة الدولة على مراقبة وضبط حدودها، ما أدّى في النهاية إلى تآكل سيادة الدول، وتعريض أمنها القومي للخطر. والجائحة العالمية التي كشفت مدى هشاشة النظام المعولم، كان من المفترض أن ينتج عنها تحول في السياسة العالمية لمواكبة استحقاقات المرحلة وتطلعات الشعوب، وأن تدفع نحو مراجعات فكرية جديدة، ومقاربات مغايرة غير تقليدية. أقلّها مراعاة صحة وسلامة المواطنين، التي أصبحت على المحك بسبب العولمة. لم يحدث شيء من هذا، على العكس أدى هذا الوضع إلى تعزيز فكرة الانغلاق على الهوية، وصعود السياسات القومية الخطيرة، وتزايد الاضطرابات الجيوسياسية، وتنامي نزعات التسلّح، ومشاريع الهيمنة، التي كرّست الاحتلال الاقتصادي، وصولا إلى تسليع الحاجات الإنسانية بالنزوع نحو المادية المطلقة، وتدمير البيئة، وضرب الفئات الاجتماعية الوسطى. وقد زادت الشكوك بالنظام الاقتصادي العالمي، مع فرض الحصار الاقتصادي على مجموعة من البلدان. الاستراتيجية الإمبريالية مازالت تستهدف دولا أخرى، بعد أن باتت وسيلة جديدة في الحرب ومحاصرة الأنظمة الرافضة للهيمنة الغربية. في الأثناء، المنطقة بأسرها، ظلت في موقع التلقي السلبي لمفاعيل السياسات الدولية، ولمشاريع الهيمنة والصراعات الجيوستراتيجية على ريادة العالم. والمشروع القومي العربي وقع أسير العجز عن إطلاق طاقات الشعوب، وتجديد خطابات المجتمع، وتفعيل ديناميكية حضارية فاعلة تفتح أفق النهوض والتقدّم. وإلى الآن يدفع العرب ثمنا باهظا نتيجة معاهدة سايكس بيكو، التي قسّمت الوطن العربي، وخلقت حدودا مصطنعة بين الدول، لتنزع القوّة عن القبائل والجماعات الأهلية، فنشأت الخلافات الحدودية، وهي إلى اليوم مصدر الأزمات الدبلوماسية بين دول الجوار العربي. واقع يحبّذه الغرب، ويُفرح إسرائيل كثيرا، فالمشروع الغربي الصهيوني عمل على تقسيم المنطقة، وتفتيت الدول العربية إلى كنتونات صغيرة ودويلات ممزقة على أساس طائفي ومذهبي وقبلي. حالة العراق والسودان وسوريا ولبنان وليبيا الآن، هي نتيجة لهذا المشروع الذي سايرته مع الأسف النخب السياسية الهشة، وتخلّت بشكل مفضوح عن البديهيات التأسيسية في خلق فضاء مشترك للتعاون بين الدول العربية والإسلامية، رغم وجود مسمّيات اتحادية، مثل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي واتحاد المغرب العربي والاتحاد الافريقي. أنظمة تسلطية تدين بالولاء للخارج، وَأَدَت هذه الاتحادات وقبرتها. وهي اليوم عبارة عن جثث هامدة لا جدوى منها. لا ننسى أنّ بعضهم راهن منذ بدايات الألفية الثالثة على أن تحمل الدبابة الأمريكية معها التحولات، من دون الوقوف على طبيعة مصالح الهيمنة الصهيوأمريكية، فكان غزو العراق بداية تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتفعيل ما بات يعرف اصطلاحا منذ 2003 بالفوضى الخلّاقة، التي من شأنها تسهيل تحقيق الأهداف المدروسة لتقسيم العالم العربي. ولا يخفى على كثيرين ما قُدّم لذلك من وثائق خطيرة، لعلّ أهمّها وثيقة «برنارد هنري لويس» سنة 1983 التي أقرّها الكونغرس الأمريكي كمشروع قابل للتّطبيق، وملخّصها تفتيت الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة مذهبية إثنية وعرقية طائفية. وقد سبقت مخطّط برنارد لويس اليهودي المتصهين خطّة «بينون» سنة 1982 وهو العقل المدبّر لحزب الليكود زمن أرييل شارون، وتقضي هذه الوثيقة أيضا بتفتيت المنطقة وتقسيم كل دولها تقريبا، تداولا وتعاقبا، استنادا إلى الحدود الهشّة بين الدول العربية، التي وُضِعت إثر سايكس بيكو 1917 دون اعتبارات هوياتية أو سيادية، ولا ننسى تصوّر الكولونيل بيترز رالف (حدود الدم) سنة 2006، وهو الناشط في اللّوبي الصهيوني داخل مراكز القرار الأمريكية، الذي وجّه رؤياه التقسيمية أساسا نحو السعودية وإيران وباكستان. تليها «خريطة أتلانتيك» 2008 لجيفري غولدبرغ الجندي السابق في الجيش الصهيوني، والناشط بدوره في أروقة السياسة الأمريكية، وكلّ هذه المخطّطات ارتبطت بدوائر صنع القرار، ونُشرت للعلن في صحيفة «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» ومجلة «أتلانتيك» ومجلة «كيفونيم» الإصدار الرسمي لقسم المعلومات بالمنظمة الصهيونية العالمية. والخرائط منشورة أيضا في كتب شهيرة، ونطق بها منظّروها في أكثر من مؤتمر، وهي أخطر بكثير من الأطروحات الأخرى التي قُدّمت في السنوات الأخيرة عبر مراكز الدراسات الاستراتيجية في أمريكا وإسرائيل تحديدا. قديما قال ملك الهند للإسكندر وقد دخل بلاده: ما علامة دوام المُلك؟ قال: الجدّ في كلّ الأمور. قال: فما علامة زواله؟ قال: الهزل فيه. ونزيد على الهزل، الفكر المهزوم، على نحو يجعل الحالة العربية عاجزة إلى الآن، عن تجاوز التقسيمات القبلية والإثنية والدّينيّة والطائفية التي غذّتها بطبيعة الحال عوامل داخلية، وعملت قوى خارجية على تجذيرها، من أجل تفجير الدول من الداخل، وتقسيم المنطقة وإدامة الصراع فيها، ومثل هذه القوى تعمل منذ عقود على منع تحقّق الديمقراطية المواطنية الحقيقية، من خلال شحذ التناحر الأيديولوجي تحت عناوين علمانية أو قومية أو إسلامية، وهذا ما ظهر على وجه الخصوص خلال العقد الأخير إثر موجة الاحتجاجات التي أسقطت أنظمة، ولم تخلق البديل الديمقراطي، بل جاءت بنظم حكم أكثر فسادا وتخريبا للدولة الوطنية، وكثير منهم يتمسك حدّ اللحظة بمثل هذا الاستقطاب الأيديولوجي العقيم، تحت عنوان المعارضة التي تدين بالولاء في معظمها للسفارات الأجنبية. وهي واقعية مخجلة تُبقِي ترديد الشعارات أمرا متساوقا مع الانقسام المعلن، الذي يُبطن الولاء للأجنبي ويخضع لإملاءاته، وكل هذه الأدران هي معوّقات حقيقية في عملية التغيير والإصلاح، وجبت أزالتها، لأنّ في ذلك جرعة أكسجين تنتظرها شعوب، تنشد الحفاظ على الوحدة الوطنية، وتجنّب الانقسامات والتشتّت والصراعات الداخلية، التي يمكن أن تحدث بشكل من الأشكال، وتؤثر في صياغة واضحة للعلاقات المدنية، وتعزيز مطالب المواطنة، على النحو الذي يمكّن من تعطيل أي مؤشرات للتحديث السياسي، باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر. وتبديد رهانات العمل الوطني الصادق، وجرّه بعيدا عن الاستحقاقات الوطنية الجامعة.
كاتب تونسي