استثناء تونس وزعامة مصر

تصريح لا يخلو من غرابة ورد الاربعاء الماضي على لسان عضو في المجلس القومي المصري لحقوق الانسان، في سياق حديث ادلى به لصحيفة يومية تونسية حول مسار الديمقراطية في البلدين.
يقول التصريح ان ‘مصر- والمقصود بها هنا في الغالب جنرالات العسكر الماسكين حاليا بالسلطة – انقذت تونس’. اما كيف امكنها تحقيق ذلك الانجاز الباهر فالجواب المقدم هنا باختصار هو الآتي ‘ما حصل في مصر’ وليس مهما – ان كان ثورة او انقلابا ـ ‘جعل الاسلاميين في تونس اكثر عقلانية، الامر الذي ادى الى استقرار الاوضاع بعد تحجيم دور الاخوان’.
لم تكن تلك المرة الاولى او الوحيدة التي يدلي فيها مسؤول او كاتب من ارض الكنانة بتصريحات تحمل مضمونا دعائيا واضحا لفكرة قديمة جديدة باتت تتكرر في كل المناسبات، وهي احقية مصر على غيرها من دول المنطقة في قيادة التحولات الجارية هناك منذ ثلاث سنوات، رغم كل ما اصاب مسارها الداخلي نحو الديمقراطية من انتكاس وارتداد واضح بعد الثلاثين من حزيران/يونيو من العام الماضي .
لعقود طويلة ظلت الصورة المروجة عن مصر في باقي الدول العربية هي صورة القائد والزعيم، سواء في حال الحرب او في زمن السلم، ولم يكن ليدور بخلد اي كان ان بلدا مغاربيا صغيرا سوف يخطف منها الاضواء ويدير رقاب العالم نحوه، بعد ان نجح في دفع حاكم استبد به لازيد من عقدين من الزمن الى الهروب تحت وطأة انتفاضة شعبية غير مسبوقة فتحت الباب واسعا امام تغييرات لاحقة في اكثر من بلد عربي. ما لفت انتباه الكثير من المراقبين لما حدث بعد فرار بن علي وتخلي مبارك هو وصول الاسلاميين الى سدة الحكم، عبر انتخابات حرة وشفافة للمرة الاولى في تاريخ البلدين، لكن ما زاد من ضبابية المشهد وقاد ايضا الى نوع من الخلط المتعمد، هو ان البعض سارع، لمجرد حصول نوع من التقارب الزمني في ذلك الوصول، الى وضع التجربتين في سلة واحدة، من دون ادراك لخصوصية كل بلد او للطريقة والاسلوب الذي اختاره ليدير المرحلة الانتقالية.
بالنسبة للاخوان كانت شرعية الصناديق كافية لوحدها للحكم ولتعبيد الطريق نحو خروج نهائي وسريع من فساد طال جميع مفاصل الدولة المصرية، أما في تونس فقد كان تصور حركة النهضة معاكسا لذلك، اذ فضلت منذ البداية الا تحيط نفسها بسياج عازل فاختارت صيغة الائتلاف الواسع كاطار يجمع بينها وبين حزبين علمانيين لقيادة البلد، وذلك حتى تتوفر لها مظلة ولو شكلية تجعلها في ما بعد اكثر قدرة على الصمود امام الهزات. كما حرصت في ما بعد على استخدام اقصى قدر من الحيطة والحذر المبالغ فيه في بعض الاحيان قبل اتخاذ اي خطوات حاسمة او جريئة تسمح باحداث تغييرات جذرية في واقع تونس، الى درجة دفعت حتى البعض من انصارها الى انتقاد ما وصفوه بـ’سياسة الايدي المرتعشة’.
المرونة التي ابداها الاسلاميون في تونس والتي سمحت لهم بالخروج بمهارة وبأخف الاضرار من مختلف الازمات الحادة التي اعترضتهم طيلة العامين الماضيين، مكنتهم بعد تقديم مزيد من التنازلات المؤلمة والصعبة من انجاز دستور نال اعجابا دوليا واسعا، رغم ما سببه ذلك من تململ وحتى قلق من حصول نوع من الانشقاق الداخلي، عقب استقالة بعض النواب من المجلس التأسيسي والشعور المتزايد داخل قطاعات واسعة من قواعد الحركة بانها تنازلت اكثر من اللزوم . اهمية التجربة التونسية التي اصبحت توصف اليوم بالاستثناء الناجح وسط ما تشهده باقي الدول العربية من صعوبات ونكسات مستمرة في انتقالها نحو الديمقراطية، انها كانت بالاساس مثلما كتب ذلك رئيس الحكومة المستقيلة في خطاب الاستقالة ‘صناعة تونسية’.
ما يعنيه ذلك هو ان التونسيين باسلامييهم وعلمانييهم لم يبحثوا عن نموذج خارجي للاقتداء، لا في تركيا ولا في ماليزيا ولا في اي بلد اخر، بل بحثوا فقط عن صيغة مشتركة تأخذ في الاعتبار ظروف بلدهم وخصوصياته. اما التساؤل الذي قد يطرح بعد ذلك، فهو ان كانت تلك المؤشرات الاولية على النجاح مبررا للقلق من ظهور نموذج تونسي في الانتقال الديمقراطي من شأنه ان يهدد ‘الزعامة التاريخية’ للشقيقة الاكبر مصر، ويسحب من تحت اقدامها بساط القيادة في المنطقة.
لا شيء على الاطلاق قد يبرر او يؤكد تلك المخاوف، فلا طموح التونسيين او قدراتهم وامكانتهم تدفع نحو تلك الفرضية البعيدة، ولا سحر الديمقراطية وحده يكفي لجذب معظم البلدان العربية نحو قبول ذلك الدور. موقع مصر ودورها المحوري يظل محفوظا ومؤثرا رغم كل شيء. لكن في المقابل فان هناك حقيقة جديدة ينبغي على الجميع ادراكها، وهي ان عصر الزعامة العربية وفق التصور السائد في ستينات القرن الماضي قد ولى وانقضى الى غير رجعة، بعد ان استفاقت الشعوب العربية وحطمت الكثير من الاصنام والمسلمات القديمة. ومن اجل كل ذلك فلا الاستثناء التونسي قادر لوحده على ان يزيح زعامة مصر ليصنع في مقابلها زعامة اخرى جديدة، ولا زعامة مصر الحالية قادرة على الاستمرار بنفس الاسلوب المعتاد اي بلا روح ديمقراطية.
تونس لم تكن بحاجة الى ان تنقذها مصر، مثلما ان مصر لن تحتاج الى تونس لانقاذها، فلم يعد تصدير الحلول والوصفات الجاهزة بالامر المقبول والممكن في هذا العصر، وهذا للاسف الشديد ما لم تفهمه حتى الان بعض النخب والقيادات العربية.

‘ كاتب صحافي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آدم زحلوط - واشنطن دي سي:

    تحليل ممتاز يا أستاذ نزار .. شكرًا جزيلا.

  2. يقول Saadia from New York:

    تحليل في التصميم اللاه يعطيك الصحة

  3. يقول Hassani. Morocco:

    الاستثناء الوحيد و الذي خرج بأقل الأضرار هو المغرب

إشترك في قائمتنا البريدية