مَنْ مِن الجبال دعتْك يا محمّد الغزّي لتستجيب؟ هل هم أجدادكُ البِعادُ، الحُصْري وابن رشيق، أو هم من أجدادك الأقرباء محمّد الشاذلي عطاء الله ومحمّد الحليوي، أو هم خلاّنُك الذين فارقوك فتركوا في النفس جرحا لا يندملُ، إلاّ باللحاق بهم، وعلى رأسهم الروائيّ صلاح الدين بوجاه؟ أوَ تدعو الجبالُ الجبالَ؟ أَوَ تُعْلِنُ صباحا أنّك تزُفّ إلينا ظهور ديوانك الجديد، الذي أردتَهُ الأخير، نهاية الزاد، وليس آخرَ ما قلتَ، لأنّي على يقين، أنّك لساعة ورود الموت عليك، ما زلت تقول شعرا، ولعلّك ناجيته شعرا، كما كُنتَ تُناجيه دوما، وتدفعه للابتعاد عنك، تًصاحِبُ الطبيعة في ديوانك الأخير، وتعود إليها، تعود إلى أجدادك الجبال، لتتحوّل جبلا ثابتا شامخا «الجبال أجدادي.. الأنهار إخوتي»، لم يسمعك الموتُ هذه المرّة يا شاعر القيروان ولم يُمهلك من الزمن ما به ترى ديوانك الجديد الذي أعلنتَ عن صدوره صباح يومٍ فارقتنا فيه، ولِمَ ينثنٍ الموتُ مُعْرِضا عنك، منصتا لجميل قولك ممّا يُقارب نصف قرنٍ، إذ تنبّهتَ أنّه قد يفجؤك، بقوّة وعُنْف، ولم يخجل الموتُ منك ولم يستح هذه المرّة، لأنّك صرت مستعدّا لمرافقته، بعد أن فارقك من تُحبّ، وفقدت الحياةُ بغيابهم ألْقها، لم تقدر على ردّ الموت، وكم فتّح بابك، وتركك لتُكْمل خُمورك، ولتحيا عشقك، ولتقترف ذنوبك، وعلى رأسها ذنب قول الشعر الحقّ، لم يُمهلك الموت هذه المرّة، وأنت القائلُ: «إذا جاءني الموت مُسْتخفيا/ ورآني في زُرْقة الليل مُحتفلا/ أستزيد نداماي بعضَ الشراب/ سيُطرق مُستحييا/ ثمّ يخرج مرتحلا/ ويُغلق بابي». محمّد الغزّي الذي فارقنا هذا الأسبوع، هو شاعرُ القيروان الذي شارك نُخبة من أدباء القيروان الوُجود والفرح والترح، وورث معهم عن أجداده الأوَل حُسْن القول، والقُدْرة على التنبّه إلى عميق المعاني والتعبير عنها بإجراء لغةٍ، لم تكن يوما عصيّة عليهم، نُخبةٌ من الأدباء منهم من ارتحل، ومنهم من يُعِدّ حقائب الارتحال، حسين القهواجي، صلاح الدين بوجاه، ممّن فارقوا الحياة الدنيا، بشير القهواجي، المنصف الوهايبي، جميلة الماجري، ممّن ما زالوا يخوضون معارك الحياة. صاحَب محمّد الغزّي هذه الجماعة التي كانت واجهة القيروان وواجهة البلاد التونسيّة في الأدب، وكان الأقرب إلى قلبه وإلى روحه الروائيّ صلاح الدين بوجاه الذي غادر الدنيا وزيفَها.
خاض محمّد الغزّي غمار الشعر منذ يفاعته، منذ طفولته، وكان شاعرا في حياته، مُعْرِضا عن تكدُّس مشاغل الحياة، يحيا الشعر في حياة يومه، وكُنت أذكره يوم درسّني في المرحلة الثانويّة يغيب عن الوجود، نافثا دخان سجائره، يتّبع بذهنه معنى سُرعان ما يلتقطه ليخطّه بقلمه الذي لا يُفارق يده، يكتب الشعر في كلّ مكان، ويبحث في أيّام البرد القارس عن شعاع شمس يُجالسه وهو ملتحف ببرنسه، ويذهب عنك وهو معك إلى عالم لا يعرف سواه جوهره. خاض الشعر من عالمه الوسيع، وارتبط في بداياته مع توأمه الشعريّ المنصف الوهايبي، حتّى كاد البعض ألاّ يُميّز بينهما، هما حُضَّرٌ معا في كلّ المحافل الشعريّة، يُدرّسان معا في المعهد الثانوي نفسه، يُناقشان معا رسالتي الدكتوراه، ينتقلان معا إلى التدريس في التعليم العالي، يُسافران معا، ويطوفان أرض العرب وأرض العجم ليقولا شعرا مختلفا، أحدُهما ينحت في الصخر، وهو الوهايبي والثاني يغرف من البحر، يتبع الوهايبي سَلفه ممّن عقّدوا المعنى وأغلقوه وطلبوا عُسْر العبارة، واتّبع الغزّي أصحابه من ذوي المعاني اللّطاف، يتبع جميل بثينة ومجنون بني عامر والبحتري ومَن أوضح اللفظ وأغلق المعنى مِن أصحاب التصوّف، إلى أن انفصل الشاعران، ولم ينقطعا، يومها، قال محمّد الغزّي ما تذكّره عند وفاته وأعلنه المنصف الوهايبي يوم دفنِ الغزّي: «مِن محمد الغزي إلى منصف الوهايبي منذ 40 عاما: «حزّ بمعصمه عرقا/ وسقاني من دمه المسفوح/ كيف إذن يتركني من بعد أن اشتعلت نار البهجة في فحم الروح.
منذ أربعين عاما اختصرنا محمّد الغزّي في هذه الأبيات التي حفظها أغلب من درسوا عنه، أو من صاحبوه: «كيف إذن يتركني من بعد أن اشتعلت نار البهجة في فحم الروح»، شاعران كبيران في حضن القيروان المكلومة، المغروس في خاصرتها ألم الوجع، وقدر الغزو الهلالي الذي لم ينقطع، القيروان المُهمَلة، التي أحبّها محمّد الغزّي عشقا لا يبيد ولا ينضب. انتبه محمّد الغزّي أنّه شاعرٌ طفلٌ فدخل تجربة الكتابة للأطفال وبُرِّز وتميّزت كتابته، وحصد جوائز شجّعته على مواصلة الكتابة للطفل، من أعماله التي اشتهرت: «صوتُ القصَبةِ الحزين»، «كان الربيع فتىً وسيماً»، «علّمني الغناء أيّها الصّرّار»، «الأرض وقوس قزح»، «ليلة بعد ألف ليلة وليلة»، «النّخلة تمضي جنوبا»، «حكاية بحر»، «القنفذ والوردة»، و«رسالة إلى الشتاء»، وقد لاقت هذه الأعمال قبولا حسنا خاصّة في الخليج العربيّ الذي راق لمحمّد الغزّي الانتقال إليه، في تجربة تدريسيّة في سلطنة عُمان، تركت في نفسه الأثر الجميل، وأحبّ فيها البلاد والعباد. ولقد حصل الراحل الشاعر على عديد الجوائز التي ثمّنت كتابته للأطفال، ومنها: جائزة الشيخة فاطمة بنت هزاع بن زايد لقصص الأطفال الإمارات العربية سنة 2002، وجائزة الشيخة ميرا بنت هزاع بن زايد لشعر الاطفال الإمارات العربية سنة 2004، وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب سنة 2015. غير أنّ كتابته للطفل وبُروزه في هذا النمط الأدبيّ لم تُثن محمّد عن كونه، عن جوهره، شاعرا، إذ واصل تجربته الشعريّة التي أنهاها يوم نُزِعَت الروح منه، بإعلانه صدور ديوانه الجديد، فالقليل الذي أُعطِيَه الغزّي من «كُبّة الشعر»، والقليل الذي فاض عليه من خفيّ المعاني، قد ملأه، وأغرقه، حتّى قال: «لا تسقني من قبلهم يا ساقي/ إنّي سأرضى بالقليل الباقي»، هذا القليل قد خرج منه: «كتاب الماء، كتاب الجمر» (1982)، «ما أكثر ما أعطى، ما أقل ما أخذت» (1991)، «كثير هذا القليل الذي أخذت» (1999)، «سليل الماء» (2004)، «كالليل أستضيء بنجومي» (2006)، و«ثمّة ضوء آخر» (2007)، و«استجب إن دعتك الجبال» (2015). يغيب محمد الغزّي عن وجود العين، ويترك بيته، القيروان، ليلحق بعالمٍ صار مستعدّا له، وترك فينا ما إن تمسّكنّا به لن تدخل القيروان النسيان، وتتوهّج وإن عانت الفقْد والإهمال، قال محمّد الغزّي ذات شعر «مثل الخيول هي البيوت، إذا مضى/ أصحابُها حنّت إلى الأصحاب/ وتظلّ تشكو بعد كلّ ترحّل/ وتظلّ تشكو بعد كلّ غياب/ للدُّور أرواحٌ سكنّ حجارها/ وخفقن في الجدران والأبواب/ وإذا البيوت فقدن ماء حنينها/ أصبحن محض حجارة وتُراب»، ولفقدكم فإنّ القيروان المدينة التي تتنفّس بشعرائها، أصبحت محض حجارة وتراب، كنتم روح البلاد ونَفَسَها وبهْجتها. ستذكرك الجدران يا محمّد الغزّي، وتذكرك الأروقة وسور المدينة المتآكل، الساقطُ منه، والذاهب إلى السقوط، وسيذكُرك ابن رشيق والحليوي، كنْ في عناية صلاح الدين بوجاه، واهنأ بصحبته كما كُنت دوما، وكن في صُحبة من عشقت، غادرْ القيروان إلى أحبّة فتّحوا أبواب السماء لاستقبالك. فـ»إذنْ ما الذي سوف يغْنَمُهُ موتُنا/ بعد حفْلِ الحياةِ الجميلْ…/ فها هي أرواحُنا أكلتْ كلَّ أجسادنا/ ولم تُبْقِ للموت ان جاءَنا/ غيرَ هذا القليلْ…؟».
كاتب تونسي