استخدام الكتابة

في أي نوع من أنواع الكوارث، سواء أن كانت طبيعية مثل السيول والفيضانات والزلازل، أو من صنع البشر مثل الحروب، وتفجيرات المدن وانتهاك الحياة بكل معانيها المقدسة، تكثر التشنجات وترتفع أصوات تنهال باللوم على أشخاص لا حول لهم ولا قوة، وليست لديهم سوى الكتابة التي قد يستخدمونها بلا جدوى وقد لا يستخدمونها بلا جدوى أيضا.
أي شاعر لامع، أو كاتب معروف أو حتى مغني أو طبال أو ممثل فكاهي، لم يقل شيئا، أو قال ما لم يعجب البعض، يجد نفسه فجأة خائنا كبيرا، يرتدي سمعة سيئة هي في الحقيقة ليست من تفصيله ولا طمح لينالها لكن حيكت له وارتداها مرغما.
وأذكر منذ سنوات أن صراعا على السلطة، جرى في بلد عربي لفترة ما وانتهى، وكانت له أصداؤه بالتأكيد، ولأن الأمر لا يعنيني من بعيد أو قريب، وأنا أصلا في الغالب لا أكتب إلا في الشأن الثقافي، ولا أجيد النواح ولا أستطيع متابعة الأحداث بقوة بسبب مشاغلي، لم أعلق على ذلك الصراع، وظللت متابعا للشأن الثقافي، وفوجئت أن كتبت لي واحدة لا أعرفها، ولا أعرف إن كانت كاتبة أم لا، قالت لقد كنت أراقب مقالاتك وقصائدك ولم أجد في ما تكتبه أي تعليق وطني، ولا بطولة تستحق عليها الثناء، لذلك سأقوم بحظرك من صداقتي.
في الحقيقة دهشت جدا من أن أحداً يراقبني من أجل تعميدي خائنا لقضية ليست قضيتي في المقام الأول، هناك سياسيون يتصارعون على أبواب الحكم لينتصر بعضهم وينهزم بعضهم، يحكم البعض ويصبح البعض محكومين متململين وغير راضين، تلك الفتاة بلا شك، كانت مع الطرف الذي انهزم، لكن كما قلت هذا ليس شأني، لقد اغتظت في البداية، ثم حاولت البحث عنها لأخبرها بوجهة نظري، ولم أجدها، كنت محظورا من جميع أنشطتها على الإنترنت.
أيضا حدث تفجير عنيف مرة في بلد عربي، وكتبت على صفحاتي في وسائل التواصل الاجتماعي إدانة للتفجير، وعزاء لأسر الضحايا، فكتب لي مباشرة واحد من أهل البلد، يلومني على تقاعسي، وأن إدانتي ليست قوية بما يكفي، وعزائي لأسر الضحايا باهتا. وواضح طبعا أن الرجل يحملني مسؤولية أن تفجيرا حدث وأشخاصا ماتوا فيه، ولم أعرف بماذا أرد، اكتفيت بالصمت، وهو ملاذ آمن إن أجاد الإنسان استخدامه.
منذ أشهر هناك حرب وعرة تجري في بلدي السودان، حرب عبثية بكل معاني الكلمة، لا غالب فيها من طرفي الصراع، ولكن ثمة مغلوب أكيد هو الشعب السوداني الذي مات منه كثيرون وتشرد ملايين في داخل البلاد وخارجها، وفقدنا في تلك الحمى بيوتنا وذكرياتنا وآمالنا وطموحاتنا وحتى آلامنا التي كنا نتألم بها داخل وطن متماسك.
ماذا كان رأي الكتابة في ذلك الموضوع؟
كتبنا بلا شك، استخدمنا الكتابة بإمكانياتها المتواضعة، كتبنا:
أوقفوا الحرب.
لا للحرب.
لا لإراقة الدماء.
أنا شخصيا كتبت مقالات عدة، في المنبر الذي أكتب فيه، ونوهت لرأيي في ندوات أقيمت في شؤون لا علاقة لها بموضوع الحرب، كتبت تغريدات ومنشورات في فيسبوك، وتجادلت مع مجادلين، لكن هل وقفت الحرب؟ هل حقنت الدماء؟ هل استردت الخرطوم نفسا من أنفاسها الهاربة؟
ثم يأتي من يكتب لك: أين أنتم من الحرب في بلادكم؟ وماذا قدمتم للشعب السوداني؟
نعم لم نقدم شيئا لأن السلاح الذي نستخدمه ليس قويا بحيث يهزم جيوشا مدججة بالسلاح، وحتى العقول التي كنا نظن أنها نيرة ويمكن أن تتأثر بصراخنا ضد الحرب، لا يبدو أنها عند حسن الظن.
فالكتابة قد تصل إلى أماكن كثيرة، ولكن مجرد وصول منهك، لا يحرك ساكنا في تلك الأماكن، وكنت كتبت مرة ردا على سؤال: الكتابة والتنوير الذي كان يطرح قديما، ولم يعد أحد يطرحه الآن بسبب تغير الأحوال، أن الكتابة لم تعد من أسلحة التنوير، والمثقف ليس صديقا حميما للمجتمع الشعبي كما كان سابقا، ولا حتى صديقا لزملائه الذين قد يطاردونه، ويقضون عليه لأتفه الأسباب.
لكني بالرغم من كل تلك القناعات، لم أتوقف عن لوم من أشعلوا الحرب، وأداروا وجوههم للتفاوض، حتى لو كانت هناك ميليشيا متمردة على الجيش الوطني، وهي ميليشيا كانت ملحقة بالجيش وتعامل على أفضل وجه، قبل أن يحدث الخلاف، وتنشب الحرب.
بالنسبة لحرب غزة التي تجري وقائعها الآن بكل عنف وبربرية، كلنا أدنا وكتبنا وعزينا، وتساقطت دموعنا حزنا على ضحايا قتلوا داخل مستشفى، وليس لهم حول ولا قوة، ولا منهم من رفع السلاح في وجه قاتلهم، إنها مواقف ثابتة عند كل الناس تقريبا، أن يبكوا على من قتلوا بتلك الطريقة، ولم يكونا طرفا في حرب.
لكن أيضا هناك من يتفه من تلك المواقف، يعتبرها مواقف استهلاكية، ويطالب بمواقف أكثر تميزا، ولا أدري كيف يمكن التميز في شأن كهذا؟
نحن كما قلت نستخدم الكتابة بحسب إمكانياتها التي تملكها، وبحسب ما تهبنا من إيحاء نركض به في دروب الحياة، لكن صراحة لم أعد أعرف، أي نوع من العطاء الكتابي يريد الآخرون؟
ثم أتذكر أن الحرب من الكوارث الكبرى، وفي زمن الكوارث الكبرى، يحدث تشوش كبير، خاصة عند من يقيمون في مكان الكارثة، وشاهدت مرة ناجين من زلزال المغرب الذي وقع مؤخرا، يتحدثون، وبعضهم قد يكرر الكلام، أو ينسى ما يريد قوله.
عموما هذه قدرات الكتابة، إنها ليست بندقية، ولا دانة يمكن استخدامها في الحروب.
*كاتب من السودان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية