عثرت قبل مدة في محل لبيع الكتب القديمة في لندن على مذكرات ماكس مالووان. لم أكن أعرف من هو. ولكن عندما قرأت أنه عالم آثار بريطاني نقب طويلا في العراق في العشرينيات والثلاثينيات، وفي ليبيا أثناء الحرب العالمية الثانية، اهتممت، ثم قوي اهتمامي لما قرأت أن المرأة التي تعرّف بها في العراق وتزوجها إنما هي آغاثا كريستي (!) التي صحبته في كثير من حفرياته هناك، فكان لما شهدت وحفظت في رحلاتها معه أثر في كتابة عدد من رواياتها التي تدور أحداثها في الشرق الأدنى. واكتشفت أيضا أن مالووان وآغاثا كريستي قد رويا بعضا من هذه الرحلات في كتابهما «تعال وارو لي كيف تحيا». والطريف أن العنوان اقتباس من قصيدة للويس كارول، وأن فيه تنويعا دلاليا على كلمة «تل» الإنكليزية (ارو، أو احك) لأنها تحيل إلى كلمة ‘التل» العربية (المرتفع أو الهضبة) التي شاع استخدامها بين علماء الآثار الأجانب!
استمتعت بالصفحات التي يصف فيها مالووان طفولته لأني أعرف المنطقة التي نشأ فيها ولأن وصفه الشيق يستعيد أجواء وأسماء مدنية وثقافية لندنية تعزّ على كل من يهتم بتاريخ أوائل القرن العشرين. ثم تذكرته أخيرا عندما قرأت في الصحف العالمية أن لوبي «الووك» قد اقتحم مجال الآداب والفنون، فإذا بموجة الرغبة في الاستدراك السياسي على عيون الأدب الكلاسيكي والشعبي، بتنقيتها من العبارات التي قد تعدّ مسيئة لبعض الأقوام، تدرك روايات آغاثا كريستي بعدما اجتاحت نصوص أورسولا لوغين، وإيان فلمنغ (مؤلف روايات جيمس بوند) وكاتب روايات الأطفال رولد داهل.
وموجة التنقيح أو «التعقيم» السياسي هذه هي موضة أخرى من الموضات التي عادة ما تنشأ في رحاب الجامعات الأمريكية ثم تنتقل إلى بريطانيا قبل أن تسري في بقية أوروبا. ولا شك أن الطموح إلى إحقاق قيم المساواة والاحترام المتبادل بين الإثنيات والثقافات والديانات، وبين الأغلبية والأقليات، في الواقع المعيش إنما هو غاية نبيلة جديرة بأن تتعاهد عليها البشرية جمعاء.
مثل هذه الرغبات المساواتية بأثر رجعي هي ممّا يمكن التماس العذر له لدى المراهقين، ولكنه لا يمكن أن يؤخذ مأخذ الجد الفكري
ولا شك أيضا أن الطموح إلى أن تجسم الأعمال الفنية والفكرية المعاصرة جميع هذه القيم، التي صار شبه متعارف عليها في القرن الحادي والعشرين، إنما هو اليوم غاية واجبة التحقيق لأنها تتعلق بما هو في متناول الإنسانية حاضرا. أما أن تبلغ النزعة المساواتيّة، المحقّة في مبادئها ومقاصدها، حد الرغبة في إحقاق المساواة والاحترام بأثر رجعي، فهذا ما لا سبيل إلى فهمه. وإني لأعجب لاحتدام الجدال والسجال في هذا الشأن في المجلات الفكرية والصحف الجادة. فمثل هذه الرغبات المساواتية بأثر رجعي هي ممّا يمكن التماس العذر له لدى المراهقين (إلى حين، طبعا) ولكنه لا يمكن أن يؤخذ مأخذ الجد الفكري. ذلك أن التاريخ البشري هو تاريخ التفاوت، بل اللامساواة، بين مختلف الفئات والأقوام والطبقات والقوميات. ولكن مفتاح التحرر من أثر هذه الحقائق التاريخية، المنافية لروح عصرنا، لا يتمثل في محاولة طمس تعبيراتها وتجلياتها في كلاسيكيات الأدب والفن (أي في سالف الإنتاج الرمزي) بل إن مفتاح التحرر هو في السعي الفعلي لإنشاء حضارة إنسانية قائمة على حقيقة المساواة المطلقة التي قررها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «كلكم لآدم، وآدم من تراب».
ومن علامات غثاثة هذه الموضة أن ما حذف من الطبعات الجديدة من روايات آغاثا كريستي يشمل كلمات مثل «شرقي» و«غجري» و«يهودي» و«ساكن أصلي» (التي عوضت بـ«محلي»). كما ستحذف من روايات جميس بوند العبارات التي قد تعدّ عنصرية أو مهينة للمرأة. أما الأغرب فهو أن مئات النعوت التي حذفت من الطبعات الجديدة لروايات رولد داهل تشمل «بدين» و«سمين» و«دميم» وكل إشارة إلى لون بشرة الشخصيات وإلى جنسها (لا ولد ولا بنت!!!). كما تم تغيير التسميات العنصرية للعبد والرقيق في رواية «هاكلبري فين» لمارك توين. ولو استسلمنا لهذا الهوس لصار لزاما علينا نحن أيضا أن نطالب بحذف العبارات العنصرية التي كتبها مارك توين عن العرب والمسلمين بعدما زار فلسطين، ولصار لزاما أن نحذف الأخشيديّات من شعر المتنبي، وأن نحرّم «لا تأخذ العبد إلا والعصا معه»!
وهم تغيير الواقع بمجرد تغيير الكلمات هو الوهم الجامع بين هذه الموضة وبين الشطحات القذافية الشهيرة: تغيير أسماء الشهور، والتأريخ بوفاة الرسول (لا بالهجرة) والتشهير باتفاقيات «إسطبل داوود» والتنظير لاسم الشيخ الزبير…
كاتب تونسي