الناصرة- “القدس العربي”: رغم دعوات بعض الأوساط في إسرائيل لاغتنام فرصة استشهاد يحيى السنوار من أجل إتمام صفقة، وإنهاء الحرب على غزة، ووقف النزيف في بقية الجبهات، فإن رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو لا يتجه نحو ذلك، متجاهلاً دعوات عائلات المحتجزين وأوساط إسرائيلية واسعة تدعو إلى “التقاط الفرصة”، بل يمعن في التصعيد لأغراض مبدئية وسياسية وشخصية.
في كلمته المتلفزة، في الليلة الفائتة، أفصح نتنياهو عن اتجاهه بنفسه بقوله “إن حماس لن تحكم قطاع غزة”، وخاطب الغزيين بالقول: “هذه فرصة لتحرير أنفسكم من استبداد حماس”، وتابع، منتقداً بالتلميح الغليظ مَن أخَذَ عليه عدم تحديد اليوم التالي، والرهان على القوة فحسب: “هذا هو اليوم الذي يلي حماس”. لكن نتنياهو استدرك قائلاً: “إن الحرب لم تنته بعد”، مضيفاً أن إسرائيل ستواصل عملياتها بكل قوتها حتى عودة رهائنها من غزة”. هذا يعني أنه، وضمن الهجمة المتوقعة على وعي الإسرائيليين والفلسطينيين والآخرين، سارع نتنياهو لقطع الطريق على الأوساط الإسرائيلية المتزايدة الداعية إلى التقاط الفرصة لإعلان الانتصار وتوقيع اتفاق ووقف الحرب، بل إعادة النظر في مخطط الضربة الانتقامية على إيران.
تصادف غداً ذكرى ولادة السنوار في مخيم خان يونس، عام 1962، ويجسّد بسيرته الشخصية المسيرة الفلسطينية التاريخية، بما فيها من ثورة، ونكبة، وتغريبة، ومقاومة
نجح رسم كاريكاتير في صحيفة “هآرتس”، نهار اليوم، الجمعة، في التعبير عن ذلك بالإشارة إلى مكنونات وحسابات نتنياهو؛ حيث يهرول قائد الجيش هليفي مقتحماً مكتب نتنياهو وبيده صورة السنوار، وعليها إشارة “أكس”، ومن تحتها مكتوب “انتهى الأمر”، فيرد نتنياهو متفاجئاً مندهشاً: “لا مفاجأة”. يشي هذا الرسم بأن نتنياهو، الطامع بقتل المزيد من قيادات المقاومة كان يفضّل ألا يأتي استشهاد السنوار الآن، لأن ذلك يضيّق هامش مناورته هو وائتلافه المتشدد، ويستدعي المزيد من الضغوط الداخلية والخارجية عليه وعلى شركائه السياسيين لوقف الحرب بعكس إرادته ومآربه المتنوعة وسلم أولوياته.
رغم أن استشهاد السنوار، وفي هذا التوقيت الدقيق، يعدّ مكسباً عسكرياً ومعنوياً هاماً لإسرائيل، خاصة وهو يأتي بعد اغتيال الكثير من قيادات “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”حزب الله”، فإن اليمين الصهيوني، برئاسة نتنياهو، يدرك أن ذلك لا يعني نهاية “حماس” وانتهاء المقاومة وإطفاء جذوتها، ولذلك فهم يبحثون عن “نصر مطلق” يعني تدمير “حماس” والمقاومة، وكيّ وعي الشعب الفلسطيني كله، وحسم الصراع معه بكسر إرادته وتأمين الهدوء للاستيطان والتهويد والتوسّع لسنوات طويلة بعيداً عن منطق التسويات والاتفاقات. وهذا ما يفسر تطعيم نتنياهو كلمته هذه المرة أيضاً بمصطلحات توراتية وتاريخية، بل ذهب لنعت الحرب بدلالة مشحونة هي الأخرى بدلالة تاريخية: “حرب القيام من جديد”، أو: “حرب النهضة”، بدلاً من “السيوف الحديدية”.
نتنياهو، وهو السياسي المجرّب والأكثر بقاءً في سدّة الحكم (فاز بالحكم للمرة الأولى عام 1996)، والذي أصدر تعليماته باغتيال عدد من القيادات الفلسطينية واللبنانية خلال ولاياته الست، يعي جيداً الحقيقة التاريخية الطبيعية أن اغتيال القيادات الفلسطينية كان موجعاً جداً للشعب الفلسطيني، وينطوي على ضربات معنوية وعسكرية، لكنه لم يوقف المقاومة والنضال من أجل إنهاء الاحتلال.
لم تنطفئ جذوة المقاومة للاستعمار والاحتلال والحرية والاستقلال بعد استشهاد المجاهد عز الدين القسّام، في 1935، ولا في استشهاد عبد القادر الحسيني عام 1948، ولا لاحقاً مع استشهاد مئات من القيادات، بعد انطلاق الثورة الفلسطينية، من كمال عدوان، وديع حداد، صلاح خلف، خليل الوزير، أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي، وربما ياسر عرفات، حتى محمد الضيف، وإسماعيل هنية الخ.
استشهاد السنوار هو حلقة في مسلسل دامٍ، وفصل واحد من مجابهة تاريخية مفتوحة فرضت على الشعب الفلسطيني بدأت قبل قرن ونيّف، وستبقى مفتوحة لأنه متمسك بوطنه، كما تدلل ملحمة الصمود والبقاء في غزة، مفتوحة تنتقل فيها الراية من جيل إلى جيل، فالاحتلال يولّد مقاومته، وهذه عبرة شعوب الأرض وخلاصة تجاربها.
هذا هو حال استشهاد السنوار، الذي تصادف غداً، السبت، ذكرى ولادته في مخيم خان يونس، عام 1962، ويجسّد بسيرته الشخصية المسيرة الفلسطينية التاريخية، بما فيها من ثورة، نكبة، تغريبة، مقاومة فلسطينية.
السنوار المنتمي لعائلة فلسطينية تم تهجيرها من مدينتها مجدل عسقلان (ضمن مشروع تطهير عرقي لم يتوقف حتى الآن)، في العام 1950، إلى قطاع غزة، فولد هو في خان يونس، والتحق كعشرات آلاف الفلسطينيين بركب من تحدّى، وسعى لاستعادة الحقوق.
أمس الأول، مات في تل السلطان، مزنّراً بقنابل يدوية، استخدم اثنتين منها، وأصاب بها جندياً إسرائيلياً بجراح بالغة، قبل استشهاده، وفق ما تؤكده صحيفتا “يديعوت أحرونوت” و”هآرتس”، اليوم، وتظهر فيديوهات أنه كان وهو مصاب في الرمق الأخير يحاول ضرب الطائرة المسيّرة بعصا، صورة فيها رسالة رمزية، وصية للشباب الفلسطينيين بأن المقاومة والفداء هي الطريق لاستعادة الحرية والاستقلال بعدما أفشلت إسرائيل فكرة التسوية.
بالنسبة للكثيرين، تتكاتب صورة السنوار هذه في لحظاته الأخيرة مع ما قاله الشاعر الراحل سميح القاسم في مناسبة تاريخية سابقة مشابهة: “يدك المرفوعة في وجه الظالم راية جيل يمضي وهو يهز الجيل القادم.. قاومت فقاوم”، و”وليفهم كل الجنرالات الحمقى.. أن النصر الأكبر.. معقود للجنرال الأكبر.. أكتوبر وليفهم كل السادة.. وكلاب السادة.. مهما طال الزمان.. نحن نُقصّر عمر الليل.. فانهض فوق ركام الموت.. يا شعبي حي أنت”.
يدرك نتنياهو واليمين المتشدد أن مسيرة الشعب الفلسطيني صعبة لكنها لا تتوقف، ولهذا، وأمام المكاسب المتتالية في العمليات والنجاحات الإسرائيلية النوعية، خاصة الاغتيالات في لبنان، وفي الأراضي الفلسطينية، وأمام صمت عالمي وعربي، تبدو شهية الائتلاف المتطرف الحاكم بقيادة نتنياهو مفتوحة على المزيد من الانتقام للحدث التاريخي الجلل (طوفان الأقصى)، وعلى الردّ عليه بحدث جلل مثله، إيقاع نكبة جديدة كاملة في القطاع تسحق فيها “حماس” والمقاومة الفلسطينية في كل مكان، واحتلال وعي الفلسطينيين ودفعهم للتسليم بدولة يهودية من البحر إلى النهر.
لن يسارع هؤلاء للاستجابة لعدد كبير من المراقبين الإسرائيليين اليوم إلى التقاط اللحظة التاريخية النادرة، وإنهاء الحرب وإعلان النصر المطلق، واستعادة المخطوفين، والنازحين، ووقف النزيف العسكري والاقتصادي والدبلوماسي، والذهاب إلى استشفاء يلملم جراح إسرائيل الداخلية، والنهوض من ركام السابع من أكتوبر الذي لم تغادره بعد.
هي أطماع لدى اليمين الصهيوني برئاسة نتنياهو لحسم الصراع، ومحاولة منع “حماس” من البقاء لأن جمرة مقاومتها المتبقية ستشتعل ناراً لاحقاً وليس بالضرورة في غزة.
جنرالات إسرائيليون: إنها ساعة مواتية لإنهاء الحرب في غزة، وترتيب الأوراق في لبنان، بما يخدم مصلحة إسرائيل والإسرائيليين في الشمال
يضاف إلى الميزان الأيديولوجي هناك حسابات فئوية لدى نتنياهو مفادها أنه يبحث عما يطيل الحرب استبعاداً ليوم الحساب الإسرائيلي الداخلي الذي يهدد بقاءه في التاريخ وفي سدة الحكم.
رغم المكاسب التكتيكية والنجاحات في غزة ولبنان لا يحلّق نتنياهو وحزبه في الاستطلاعات، ولذا فإن “التقاط اللحظة” الآن، والذهاب لصفقة سيخدم مصلحة إسرائيل كما يرى عددٌ كبير من المراقبين فيها، لكن نتنياهو يرى عكس ذلك، ويراهن على المزيد من الحسم، والأهم أن مصلحة إسرائيل هنا لا تتطابق مع مصلحته، فكيف يفعل إذا ما انتصرت إسرائيل، كما يقول هؤلاء المراقبون وخسر هو شخصياً؟
توريط أمريكا
ولذا، ليس صدفة أن اكتفى نتنياهو، في كلمته، أمس، بدعوة آسري الرهائن بالإفراج عنهم، مقابل وعود بعدم المساس بهم دون إشارة إلى اتفاق، وهذا ما يستخف به عددٌ من المحللين والجنرالات في الاحتياط، ممن يحذرون من “تفويت الفرصة” لإتمام اتفاق مع “حماس” وتحويل مكسب تكتيكي لمكسب إستراتيجي بمعنى تحقيق خطوة تغير الواقع، توقف النزيف، وتفتح أفقاً سياسياً جديداً، كما يقول اليوم المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس”.
وهذا ما يدعو له عدد من الجنرالات في الاحتياط، بمن فيهم حتى مستشار الأمن القومي السابق المتشدد غيورا آيلاند، الذي يقول إنها ساعة مواتية لإنهاء الحرب في غزة، وترتيب الأوراق في لبنان، بما يخدم مصلحة إسرائيل والإسرائيليين في الشمال، بل يدعو إلى إعادة النظر بفكرة الرد على إيران والدخول في لعبة “بينغ بونغ” معها.
لكن حسابات نتنياهو مغايرة، ونهاية الحرب ليست في الأفق، فهو، على ما يبدو، ما زال يطمع بتحقيق حلمه الكبير باستدراج الولايات المتحدة نحو “ارتطام عظيم” مباشر مع إيران حتى تدمير مقدراتها، ويعود إلى الإسرائيليين على صهوة جواد بريطاني، ويكون بالنسبة لهم “تشرتشل الإسرائيلي”، قبل أو بعد الانتخابات الأمريكية، ومن شأن “التقاط الفرصة” الآن بوقف الحرب، وتوقيع اتفاق مع “حماس”، أن تشوّش كل مخططاته ومآربه، علاوة على أن هذا جزءٌ من حسابات أيديولوجية لدى اليمين الصهيوني الذي ينتمي إليه، وهي تتطابق مع اعتبارات فئوية شخصية لديه.