استشهاد جندي مصري ونظام إقليمي على رمال متحركة

في اليوم الثالث من شهر يونيو/حزيران، عبر جندي حرس الحدود المصري محمد صلاح السياج الفاصل بين الأراضي المصرية والأرض المحتلة ثم سار على قدميه قرابة الخمسة كيلومترات قبل أن يصوب رصاصه على جندي وجندية من قوات الاحتلال فيرديهما، ثم يكمن قرابة خمس ساعاتٍ قبل أن تداهمه قوة دعمٍ إسرائيلية أُرسلت إلى مكان الحادث ليشتبك معها فيقتل جندياً آخر قبل أن يُستشهد.
تضاربت الروايتان المصرية والإسرائيلية، فادعى الجانب المصري أن الشهيد كان يلاحق مهربي مخدرات، بينما أكد الجانب الإسرائيلي أنه تسلل عمداً بقصد الاشتباك، وهو في رأيي الأقرب للصواب، خاصةً في ضوء الصمت والتعتيم النسبي، ومن ثم التأخر في الإدلاء بتصريحٍ عن الواقعة الذي تعاملت به السلطات المصرية في البداية، وهو أمرٌ جد لافت، إلا أنه يبدو منطقياً للغاية حين نتأمل في الصورة الأكبر، والسياق الأعم للواقع السياسي للمنطقة، وفي القلب منها مصر ودولة الاحتلال.
ثمة تعتيمٌ متعمد من السلطات المصرية على تلك المعركة الصغيرة، وفي حين صارت صورة الشهيد متداولة بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي، في تدفقٍ عميم لمشاعر الفخر والاعتزاز الجماعي، فإن المجال الإعلامي العام الخاضع للسيطرة الخانقة وشبه الكاملة للنظام لم يولِه ما يستحق، ولم يحتف بنموذج النضال والبطولة الفردية ذاك، كما ينبغي، فهذا الجندي، البسيط للغاية لم يتصد فقط للإسرائيليين، بل قام بما هو أخطر بمراحل: قام بفعل اقتحامٍ لأرضٍ معاديةٍ تماماً، من دون مددٍ أو سند، في عمليةٍ لعله كان يدرك أنه على الأغلب لن يعود منها. ما الذي دفعه إلى ذلك، وما الذي دار في ذهنه وهو يقطع السياج، ومن ثم يقاتل لساعاتٍ طويلة محاصراً، لكنه لم يزل يمتلك من التماسك ورباطة الجأش ما يثَبِتهُ مهاجماً مقتحماً. يقيناً إننا لن نصل إلى إجابةٍ، فقد رحل عن عالمنا. قد نسأل جيرانه وأصدقاءه ورفاقه في وحدته، إلا أننا لن نصل إلى إجابة شافية. لكن يبقى السؤال الأهم يلح على البحث عن الإجابة: لماذا التأخر والتعتيم؟ لماذا التعامل مع الحادث كشيءٍ عابرٍ؟ في الماضي قيل عن سليمان خاطر أنه فقد صوابه فأطلق النار: تلك دائماً حجةٌ سهلة ومطياعة يلجأ لها النظام المصري، ومن على شاكلته من الأنظمة القمعية، فخانة الجنون ومشافي الأمراض العقلية ما أكثر ما تتسع له. لكن التأمل المتريث يقودنا إلى ما أدركه النظام، وسبب من ثم إزعاجاً أزعم أنه شديدٌ لهم.

أربعة عقودٍ من تشويه الوعي ولم تزل الفطرة سليمة، رافضة، رابضة على الحكمة المتوارثة بأن إسرائيل هي المغتصب والتهديد الوجودي

حين اقتحم محمد صلاح الحدود لم يتخط الحد الفاصل بين البلدين، بل اقتحم المنظومة الرسمية المصرية، وحين أطلق الرصاص فربما أودى بثلاثة من جنود العدو، إلا أنه ضرب في الصميم ترتيبات وانحيازات وسياسة النظام المصري.
فذلك الشاب، المصري الملامح جداً، «الصنايعي»، البسيط من خلفيةٍ بسيطة، والذي يقطن حياً مكدساً لا يوصف بأنه من الأحياء الراقية (والرقي هنا طبعاً بالمعنى الدارج) يمثل قطاعاً عريضاً جداً من الشعب المصري. هذا القطاع، شأنه شأن بقية الشعب، لم يزل يخضع لعملية تشويهٍ وتزييفٍ للوعي منذ اتفاقيات السلام، وفق سرديةٍ مزدوجة لأكتوبر/تشرين الأول الانتصار التاريخي/ أكتوبر آخر الحروب، وتعميم ذهنية أبعد ما تكون عن التفكير الموضوعي والنقدي، والإنجازات التاريخية التي أتى بها السلام، ولاحقاً أُضيفت إليها شيطنة الثورة والتيئيس المنهجي من التغيير عن طريق الحراك الشعبي. هذا الشاب نما وكبر في ظل «الغُمة السيسية»، حيث السيطرة على الإعلام شبه مطلقة والقبضة الأمنية غليظة ولا تعرف الرحمة؛ حيث التنسيق الأمني والاستراتيجي والتوافق مع إسرائيل لا مثيل ولا سابق لها، والرغبة لا المصرية، بل العربية في التطبيع عميقة، ثم يأتي هذا الشاب رغم كل الجهد المبذول والمرصودة له إمكانيات إعلامية ومالية متسلحة بكل ما في ترسانة الدولة من سلاح فيطلق الرصاص على كل ذلك. هنا تكمن المشكلة البنيوية العميقة، التي أزعم أنها تؤرق من يخطط ويدبر للنظام، فبعد كل تلك السنوات، يثبت أن كل ما يبثه النظام لم يتغلغل سوى في القشرة الأكثر سطيحةً في روح الناس وأذهانهم.
لم ولن يبتلع الشعب المصري والشعوب العربية إسرائيل، إن رفضاً عميقاً مستقرٌ في أحشائهم، ينفرهم من الكيان المحتل ويرشد بوصلتهم إلى كونه الخطر والعدو الحقيقي.
أربعة عقودٍ من تشويه الوعي ولم تزل الفطرة سليمة، رافضة، رابضة على الحكمة المتوارثة بأن إسرائيل هي المغتصب والتهديد الوجودي، بالإضافة إلى ذلك فقد أحرج محمد صلاح النظام المصري، تحديداً باستشهاده، كان من الأفيد لهم أن يعود فيُمسك به ثم «يُنتحر» أو يعدم ليُقدم قرباناً على مذبح الرضا الإسرائيلي وروابط النظام المصري الوجودية والمصيرية بالكيان الإسرائيلي، وتأميناً لكل رهانته عليه.
لقد أثبت محمد صلاح كم هي هشة الأسس التي بُنيت عليها تحالفات النظام المصري، والتي تمتد في سائر المنطقة لتصبح نموذجاً أو إطاراً ينضم تنضم إليه سائر الدول وبمقتضاه يتم استيعاب كيان الاحتلال، واعتبار قضية الشعب الفلسطيني شبه معدمة.
لقد أثبت محمد صلاح أن أوهام تطبيع وجود إسرائيل هي مجرد ذلك، أوهام، وأن النظام المصري وكل الترتيبات الإقليمية التي خططت حساباتها ورهاناتها على تطابق السياسات مع إسرائيل والرهان والاعتماد عليها، منبتة الصلة بشعوبها، على عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى، أنها فاقدةٌ للشرعية الحقيقية، وأن ما تخالها أرضاً صلدة تقف عليها بقوة الحديد والنار، وضخامة الآلة الأمنية المدججة بالسلاح ليست في حقيقة الأمر سوى رمالٍ متحركة.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية