من أجل بناء الإستطيقا، يجب عدم هدم الميتافزيقا، بل ينبغي إبداع صورة جذابة تقاوم استعارة السينما وغموض الميتافيزيقا، لأنه إذا كانت فلسفة السينما قد استطاعت أن تحقق ثورتها في مجال الصورة حركة، والصورة زمنا، مع ذلك فإنها تساءلت عن ماهية الصورة، وحين أرادت أن تجيب وجدت نفسها في عتبة الإستطيقا، باعتبارها مدخلا لفن الصورة.
الهدف من الإستطيقا هو إيقاظ السينما من سباتها الفني،لذلك فإن سؤال ما إستطيقا السينما لا يمكن الإجابة عنه إلا بسؤال: ما معنى السينما دون إستطيقا. والهدف من هذا السؤال هو البحث عن إقامة شعرية في الصورة، حتى نتمكن من تحديد ماهيتها، لأن الصورة بمعناها الميتافيزيقي تقدم خدمة جليلة بالنسبة للسينما، على الرغم من أن: «السينما تستعمل الحركة كاستعارة، حين تحررها من الإخراج، لأن الفن الاستعاري يبحث عن الوصول إلى سمو الجمال في الاستعارة، ولعل هذا ما يفسر قدرة السينما على إبداع مفاهيم خاصة بها، من خلال تحليلها الفيلمي». لكن ما هي هذه المفاهيم؟ وما هو التحليل الفيلمي؟ وكيف تكون الاستعارة السينمائية ممكنة؟ وبما أن الاستعارة السينمائية هي التي تحرك المرئي واللامرئي، فإن هذه الاستعارة، ما هي إلا مجرد نص أدبي يتموج بين الصورة: «ومع هذا الجسد الذي يتموج تصبح أهمية الاستعارة في الكتابة السينمائية ضرورية، لأنه ينبغي أن تكون حاضرة بقوة أكثر من حضور الحكي، فانصهار الاستعارة في المرئي لا يمكن القيام به إلا في السينما كاختراع إجرائي للتقنية».
وفي الحقيقة فإن تموجات الاستعارة بين الصور، هو ما يخفي الوجه المبدع للتقنية، التي قامت بانتزاع الكينونة من الوجود ووضعها في الموجود، ولذلك فإنها تتفق مع الميتافيزيقا، فكلاهما يقود نحو نسيان الوجود باسم الموجود، بل أكثر من ذلك فإن المخرج السينمائي هو فنان وتقني في الوقت نفسه، فبالإضافة إلى جعل الفن مجرد لعبة الصورة مع ذاتها، فإنه يتحكم في جنونها بواسطة تقنية المونتاج والتوهيم، ذلك أن اللعب لم يعد كما كان عند نيتشه، بمثابة حافز على المرح المأساوي. وبعبارة نيتشه، فاللعب لا يكون لعبا، إلا إذا انصهر مع رفاقه في الطريق إلى الإنسان الراقي، ويحددها نيتشه في الضحك والرقص، ولذلك فإن السينما، اكتشفت أسرار هذا المذهب الديونيزوسي، وأضحت توظف اللعب والضحك والرقص في الفيلم نفسه، من أجل أن يجد الإنسان طفولته الضائعة في الغربة.
غاية السينما هي إيقاظ متعة الطفولة في الإنسانية، فهي لا تتطلب جدية التفكير، بل الرقص بالعين واللعب بالذوق، والضحك من الأعماق. وكل ذلك من أجل بناء إستطيقا الذات التي تتمرن على حمل المطلق، وربما هذا اللعب بالكلمات يحكم علينا بفقدان معنى المعنى، لأنه من المستحيل بناء المعنى إلا بهدم ما يعنيه، كما قال دريدا، بل يجب الحفاظ على معنى المعنى، لكي نفهمه، بلغة ليوتار. فلا استطيقا دون فلسفة، ولا تقنية دون علم ولا سينما دون إستطيقا.
لعل هذا الديالكتيك الهيجلي، هو ما يتحكم في لاوعي التفكير الفلسفي، بل إن الفلسفة ظلت أفلاطونية في لا وعيها، ولذلك فإنها تفتقد الاستطيقا، كما لو كانت شعرا، فأفلاطون طرد الشعراء من جمهوريته، لأنهم يحرضون على النشوة الديونيزوسية، والمتمثلة في النبيذ، والجنس والرقص، وتذوق ألذ الطعام.
ولعل السينما تحتفل بهذه النشوة الديونيزوسية، نظرا لحضور النبيذ والجنس وألوان الطعام والرقص والغناء. وكم هي رائعة هذه النشوة، لأنها في نظر نيتشه تقود إلى ميلاد المرح المأساوي، الذي يؤسس لإستطيقا الذات، لأنه إذا كانت الأسطورة تعبير عن عجز الفكر الذي لا يستطيع أن يقيم ذاته على نحو مستقل، فإن السينما قد جعلت الفكر بالفكر، وأصبح المرئي يقوده نحو اللامرئي.
كاتب مغربي