«عَفا الله عمَّا سَلف» مَقُولة لا تَصْدق على أموال الشعب، التي تُعْرف وتُعرّف قانونا بالمال العام، المسَوّغ القانوني والدستوري لوجود الدولة ذاتها. فلا يمكن إطلاقا أن تتنكر الدولة لذاتها، أو تغفل وتتغاضى عن نقص في كيانها، وإلا أصيبت بالعجز، فالدولة الجزائرية المنشودة لما بعد سلطة العصابة، لا يمكن أن تكون لها قائمة ما لم تُستعد أموال الشعب المنهوبة كجرائم في حق الشعب. إن قيمة الشعب من قيمة أمواله، واستعادة المنهوب من هذه الأموال هو الشرط الأساس لأي محاولة إصلاح لمؤسسات الدولة، وإرساء معالمها الآمنة والقادرة.
في ظل سلطة العصابة التي استوفت شروطها، كما يعترف الجميع، ويشفع بذلك القضاء، تمت عملية نهب منظم عبر «تشريعات» غير قانونية لسرقة أموال الشعب. وكل ما تمت سرقته ونهبه والاستيلاء عليه، يجب أن يعاد إلى مؤسسة الدولة في عهدها لما بعد سلطة العصابة.
والحالة القائمة الآن هي بمثابة حالة استعمار، قبل استعادة الجزائر لاستقلالها. فقد كان المبرر الرئيس لإمكانية تدبير أمر الدولة وشؤونها العامة هو استعادة المال العام، الذي كان يعني ثروات الجزائر ومواردها، التي نهبها المستعمر الفرنسي. الوضع نفسه اليوم في الجزائر، التي تتطلع إلى تجاوز سلطة العصابة، فإذا تم فعلا، وعن صدق، أن الدستور الجديد قد تبنىّ «الحراك المبارك» وهو بمثابة الثورة في مدلولها المدني المعاصر، فمعنى ذلك أن أول أثر يجب أن يرتبه هو استعادة أموال الشعب المنهوبة، في ظل حكم سلطة العصابة، لأنها كانت تدار من قبل قوى غير دستورية، كما يشهد على ذلك الجميع، ولأن أختام وتوقيعات الوثائق «الرسمية» لا تحظى بأي اعتبار قانوني أو سياسي. فقد قام السياسي باغتيال القانوني، تَجَسَّد في حكم صوري افتراضي لرئيس مجرد جثة بالكاد تحرك أصابع يدها. فأموال الشعب في دولة القانون والحق، ليست مجرد كلمات غوغائية تذكر في الخطابات الشعبوية، حيث يجري تجريد الكلمات من معانيها الحقيقية، ومن زخمها الحيوي النابض، فالمال هو الملكية العمومية التي تمثل ماهية الدولة وكيانها الحيوي. كما أن الشعب، مصطلح قوامه الركن الركين في ثالوث الدولة الحديثة والمعاصرة: الشعب والدولة والإقليم. فمفهوم أموال الشعب يستمد من حياة الدولة القائمة، تقوم بقيامه وتزول بزواله. ولعلّ الحالة التي تجتازها الدولة الجزائرية، أو ما بقي منها، تؤكد على أكثر من وجه، أن نهب وسرقة والاستيلاء على أموال الشعب قد أفضى، في المطاف الأخير، إلى انهيار الدولة ذاتها. كانت بدايتها سلطة العصابة، وسوف تتوالى عملية الانهيار لبقية عناصر الدولة، إذا لم تستعد أموال الشعب.. لأنه من المستحيل أن يبقى نظام من دون استعادة أموال الشعب، فهي تعني رأسمال الدولة وقوامها، واسترداد المال ذاته، يعني الحقوق العينية والنقدية للشعب، التي لا تزال في قبضة ناشطي سلطة العصابة وعُرّابها.
إن نهب وسرقة والاستيلاء على أموال الشعب أفضى، في المطاف الأخير، إلى انهيار الدولة الجزائرية
الحقيقة، أن أموال الشعب المغتصبة، كما يجري تجريدها وتقييدها في المحاكم القضائية، بمناسبة مثول عناصر حكم العصابة أمامها، لا تقبل التقادم، ولا يمكن التنازل عنها، لأنها ليست ملكية أفراد من الناس، بل هي حق الشعب المندرج والمدْغَم في صلب الدولة، وبالمعنى الذي لا يمكن لكيان أن يتنكر ويتنصل عن جزء منه، وإلا أصيب بالعجز المزمن. وعليه، فلا يمكن أن نخطو خطوة إلى الأمام إلا بعد استرداد كل أموال الشعب، لأنها ملكية عامة لا تقبل التصرف فيها من قبل شخص، ولأنها معنوية واعتبارية، كما يرى رجال القانون.
الحالة القائمة اليوم في الجزائر، تَحُثُّ على ضرورة اعتبارها بمثابة السياق الذي يوفر كل الحيثيات، التي تُمَكّن مؤسسات الدولة المتبقية، من استعادة أموال الشعب بالمنطق الذي يستند إلى أن الثروة المغتصبة، تمت في ظل نظام مُحْكم الفساد، ووفق خطة مُتْقَنة لنهب أموال الشعب، وشل إرادته، بالحالة نفسها التي تم فيها وصف النظام الفرنسي بأنه استعمار، طارئ على الشرعية، وفاقد لمبرر وجوده في الجزائر. فالمقارنة بين الوضعيتين واردة فعلا، مع حساب التفاوت المرحلي: مرحلة الاستعمار وما بعدها. مرحلة حكم العصابة وما بعدها. وفي كلا الحالتين يجب استعادة أموال الشعب التي تعبر عن الدولة ومؤسساتها. ولعلّ ما ينجم عن هذا، هو استبعاد أي سعي إلى التماس العفو عمّا سلف، من قبل أي شخص حتى لو كان رئيس الدولة نفسه، لأن المؤسسة لا تلغي المؤسسة، مال الشعب الذي هو مال عام لا تتصرف فيه إلا مؤسسة عمومية كاملة الوصف القانوني، وهو الذي لا تتوفر عليه الجزائر بعد، في ظل امتدادات نظام العصابة، سواء على مستوى المؤسسات الكبرى، أو المؤسسات الصغرى، التي لا تزال تحكمها علاقات مريبة وفاسدة، تنتظر سنوات من أجل تطهيرها. فالمشهد الذي يقدمه الحراك، لأنه هو الذي أطاح بالرئيس السابق وعصابته، ليس من الناحية العملية فحسب، بل حتى من الناحية المعنوية والرمزية والتاريخية أيضا، الأمر الذي يفرض على السلطة القائمة، أن لا تُدَبّر حياة الجزائريين إلا باستعادة واسترجاع وتحويله من مال الشعب إلى المال العمومي، الشرط الذي لا بد منه لإمكانية تسيير وتدبير شرعي للبلد.
ما يستوجب التوكيد عليه، قبل أن نختتم المقال، أن الدولة ذاتها تنطوي على فكرة العام والعمومية، بالقدر الذي لا يمكن التغاضي عن كل مكوّناتها التي تُدرك بها كدولة فعلا. وقِوَام الدولة الحديثة هو الشخصية الاعتبارية، التي لا تسمح بنهب أموالها وسرقتها، على المنوال نفسه الذي يدافع به الشخص الطبيعي عن أمواله وحياته، حتى لو تطلب الموت في سبيل ذلك. غير أن الآية انقلبت تماما في ما تعانيه الجزائر ما بعد الاستعمار، خاصة في ظل سلطة العصابة، حيث التَمَس رموزها الدولة وتَوَسَّلوها، ليس لمراكمة الثروة وتكديسِها بدون وجه حق فحسب، بل بالبقاء في الحكم، واحتكار مؤسسات الدولة، وفكرة العمومية، كأفضل سبيل إلى حماية المال المنهوب والاحتفاظ به ثم توريثه، خاليا من الجهد والمهنية وتقاليد العائلة وتاريخها في الصناعة والتجارة والتقنية. فهو مال الشعب الذي أُكْتُسب بصورة غير شرعية وسَيُورث بشكل غير شرعي أيضا، ويبقى دائما محتفظا بقوته التدميرية وممارسته الفاسدة، غير قابل للتعامل مع اقتصاد الدولة في تعريفها المنزَّه عن الأغراض الفردية والمتعالية عن المطابع السياسوية العارضة.
كل المسائل المتعلقة بالدولة، وإمكانية إصلاحها، يجب أن تتراجع، ما لم يجرِ إصلاح المؤسسات التي تكفل استعادة أموال الشعب وحمايتها من التداول الفاسد، لأن المال الفاسد له من القوة والتأثير، بحيث أنه يفسد السلطة ويدخلها في دوامة الفِتن والعُنف والإرهاب والقَمع والاضطرابات التي لا تنتهي، بل تُهَيْكَل ضمن نظام الحكم، كما حاولت سلطة العصابة في الجزائر وغيرها من البلدان العربية المتخلِّفة.
كاتب وأكاديمي جزائري
هل الأموال التي سلكت دروب ودهاليز الملاذات الضريبية ستعود؟…أشك في ذلك.
إذا عادت ولو على شكل استثمارات، فلنا أن نهنئ أنفسنا بذلك.
الذي يدير البلاد نفس العصابة، فبعد التقتيل في العشرية السوداء، ونهب المال والفساد في ال20 سنة الأخيرة، جاء دور طمس الهوية الجزائرية بهذا الدستور العلماني الإستعماري الذي تريد فرنسا اللعينة تمريره بكل الوسائل ! ولو تم الأمر لا قدر الله ستكون أكبر مصيبة للجزائر منذ الإستقلال.. بل منذ 1832!