أشغّل في بعض المرات، الراديو للاستماع للأخبار وإلى أغانٍ قديمة أيضاً، قصد كسر روتين الإنترنت ومللها. يصعد، في مرات نادرة، صوت الشاب حسني من أحشاء محنته العاشقة، ومثله يندر صوت حورية عيشي ببحتها، التي أحبطت هيمنة الرجال في جبال الأوراس، وقد أكون محظوظاً فأستمع إلى محمد علاوة، بإيقاعاته الخفيفة، التي تصلح للأعراس، أو عبد المجيد مسكود بهدوئه، أو الحاج امحمد العنقى وهو يغني «الحمد لله ما بقاش استعمار في بلادنا» أو كمال مسعودي الذي يحفظ الناس أغانيه.
مزيح من أغانٍ تتنوع بتنوع بلد يحضن ثقافات شتى ويريد المزيد، لكن السؤال الحرج، الذي نغفل عن طرحه: لمن تعود حقوق ملكية تلك الأغاني؟ لا بد على الراديو أن يدفع مقابلاً نظير بثها واستغلالها. من المنطقي لن يقلب على عنوان كل مغنٍ أو منتج، لا بد من وسيط، والوسيط في هذه الحالة هو مؤسسة فرنسية، يطلق عليها اختصاراً (صاسام) أو بتعبير أدق: «مؤسسة المؤدين والعازفين والمنتجين الموسيقيين». هذا التراث الموسيقي المحلي يدور في فلك أجنبي. يقطف عنبه فرنسيون. الجزائر تنتج وتغني بينما فرنسا تبلع دون جهد. إذا أردنا إحصاء الفنانين المحليين الذين سجلوا حقوق أعمالهم في تلك المؤسسة فسنحتاج، لا محالة، إلى دفتر من مئات الصفحات، كما أن عددهم في تزايد كل عام. هذا هو الجانب المظلم من المغامرة الموسيقية في الجزائر، أن ما نستمع إليه في الراديو أو في التلفزيون ندفع مقابل له، بالعملة الصعبة، لصالح جهات أجنبية. هل لأن الجزائر غير قادرة على حماية المصنفات الغنائية؟ أم أن الأمر يتعلق بمنافسة تجارية بين الطرفين؟
ثقل التاريخ
مؤسسة (صاسام) الفرنسية تعود نشأتها إلى نهاية القرن التاسع، فهي واحدة من أعرق مؤسسات حفظ حقوق الموسيقيين في العالم، بينما نظيرتها في الجزائر، أو ما يطلق عليه الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة (أو لوندا اختصاراً) فيعود ظهوره إلى عام 1973. إلى غاية ذلك التاريخ من الطبيعي أن يتجه الفنان الجزائري، سواءً كان مغنياً أو عازفاً إلى الجهة الأجنبية، قصد توثيق أعماله والحفاظ على العائدات من وراء استغلالها، سنجد في سجلات الحقوق الفرنسية بعض أعمال أحمد وهبي – مثلاً – على غرار أغنيتيه الشهيرتين (يا دزاير ويا بويا) أو الشيخة الريميتي التي حفظت هناك 15 عملاً فنياً من أعمالها، كذلك بلاوي هواري، أو رابح درياسة، كل جيل ما قبل الاستقلال أو الذين جاؤوا في السنوات الأولى من التحرر كانوا يصنعون موسيقاهم في الداخل، ويحفظونها في الخارج، وإلى غاية اليوم كلما أردنا إعادة استغلالها أو بثها في الجزائر، فسنحتاج – من منظور قانوني – أن ندفع مقابلاً لفرنسا.
في ظل هذا التشتت يفضل المؤلف الموسيقي في الجزائر اللجوء إلى الجهة الفرنسية، يسجل فيها أعماله، وتصير الجزائر مرغمة على الدفع بالعملة الصعبة للجهة الأجنبية.
لكن هل هناك ما يفسر أن مغنيي الأجيال الجديدة أيضاً اتجهوا إلى المؤسسة عينها في تسجيل أعمالهم، من أجل حفظ حقوقهم وكسب عائدات منها، على الرغم من توفر الجزائر على نظير لتلك المؤسسة؟ فمثلاً كادير الجابوني، أحد أصوات جيل الشباب يحفظ أعماله خلف البحر، والغريب أننا نجد في قائمة الأسماء محمد المازوني، على الرغم من موجات السخرية التي يتعرض لها في الجزائر.
أول ما نلاحظه عن الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، في الجزائر، أنه يحمل نفسه أكثر من طاقتها، كما أنه لا يريد أن يختص في مجال بعينه. يرعى حقوق المصنفات الأدبية والفنية والتراثية، السمعية والبصرية، يوسع من حقل نشاطه إلى درجة أنه يكاد يختص في كل النتاجات، وهذا أحد عيوبه، ما يجعله مؤسسة تحت ضغط كل قطاعات الإنتاج الأدبي والفني في البلاد، بشكل قد لا يوفر لنفسه الوقت الكافي في متابعة كل المواد التي يحفظ حقوقها، وكان بإمكانه أن يتوزع إلى ثلاث مؤسسات ثانوية، وقد أضاف إلى نفسه، في السنين الأخيرة، حفظ برامج الكومبيوتر وقواعد المعلومات.
في ظل هذا التشتت يفضل المؤلف الموسيقي في الجزائر اللجوء إلى الجهة الفرنسية، يسجل فيها أعماله، وتصير الجزائر مرغمة على الدفع بالعملة الصعبة للجهة الأجنبية. كما أن هناك عاملا آخر مؤثرا. فقد شاهد الناس، في العقد الأخير، أكثر من فنان محلي وهو يرقد في الفراش غير قادر على شراء دواء. فنانون كانت أعمالهم تُباع بآلاف النسخ، وحفلاتهم تجمع الآلاف من المشاهدين، مع ذلك يجدون أنفسهم في الأخير بلا دينار واحد، يستنجدون تدخل مسؤول أو موظف في السلطة قصد مساعدتهم في الذهاب إلى المستشفى، بينما المنطق يفترض أن يعيشوا، حتى آخر يوم من حياتهم، في غنى عن الحاجة، مستفيدين من عائدات حقوقهم. إن تلك المشاهد المؤلمة للفنانين الجزائريين وهم يتوسلون مساعدة من أصحاب المناصب، تجعل من فنان شاب يعيد التفكير، عشرات المرات، قبل أن يرهن أعماله في (لوندا) مفضلاً عنها نظيرتها الفرنسية، فهناك على الضفة الأخرى، لم نشاهد فناناً جزائرياً واحداً تنتهي حياته في ظروف قاسية، بل إنهم يستفيدون من الحد الأدنى من الرعاية الصحية والاجتماعية.
استمرار النزيف
نظراً لما سبق، تحولت (صاسام) الفرنسية إلى وجهة، ذات أولوية، في خيارات الفنان الجزائري، هكذا يستمر نزيف الموسيقى المحلية إلى الخارج، نحن ننتج كي نسلم بضاعتنا للخارج، وهو المخول بالتصرف فيها، على أن يدفع نسبة مئوية للفنان، بينما يقبض هو أضعافها. هذه المؤسسة تمثل فنانين يرهنون في مجملهم أكثر من 140 مليون مصنفاً موسيقيا، من فرنسيين وأجانب، أما الأجانب فيحتل من بينهم الجزائريون مرتبة متقدمة، وكل عام تدفع (صاسام) مبالغ مجزية لأصحاب الحقوق، وصل الرقم قبل سنوات قليل إلى أكثر من 500 مليون يورو ذهبت إلى الفنانين أو ذوي الحقوق من ورثتهم. رقم مداخيلها يفوق 700 مليون يورو في بعض المرات، كما إنها تراقب وتفرض مستحقات على استخدامات أعمال الموسيقيين المسجلين عندها في حال بثها على الإنترنت، هذا العمل المكثف والصارم يجعلها محل اهتمام كل فنان في الجزائر، يودعها عمله، كي يظل الجمهور الأساسي في الجزائر، ينتظر فرصة للاستماع إليها، بعد أن تصرف المستحقات للخارج، لهذا السبب فإن المؤسسات الإعلامية في الجزائر، خاصة كانت أو حكومية، تصير اليوم غير قادرة على بث الرصيد الفني في البلد، بحكم ألا قدرة لها على الدفع، منتظراً استعادة هذه الموسيقى الجزائرية الضائعة، التي فرضت عليها ظروف الهجرة القسرية إلى الخارج.
روائي جزائري