الشعراء متهمون بالخيانة، والاحتيال على اللغة، أو توريطها بصراعات تتفجر عبر «الترامي» اللغوي، والغلو بالعصاب الاستعاري، لكن هذه التُهم تظل عائمة، لا سند لها، سوى ما يحتمله التأويل، وهو ما يجعل قراءة الشعر مأخوذة على النوايا، وعلى لعبة التعمية واللاوضوح، التي يُسرّب من خلالها الشعراء حيلهم النسقية، كما يقول النقاد الثقافيون.
الخيانة توصيف سلطوي، وليس قانونيا، ويرتبط بخروج الشاعر عن مألوف السلطة، بوصف هذا المألوف جزءا من حاكمية المعنى، ومن فرضيات الطاعة والبيعة، التي تحدّ من شهوة الحرية، ومن أي سلطة ضدية، بما فيها سلطة الفرادة والمغايرة التي يسعى إليها الشاعر، لاسيما في ظل مجتمعات تؤسس خطابها العلني على فقه الطاعة، وعلى أن المروق بالقول يشبه المروق بالفعل، وهذا ما يجعل الشاعر العربي محكوما بالبحث عن مزيدٍ من الحيل النسقية، ومن الخفايا الاستعارية، التي تستره وتحميه، وتهِبُ لغته الشعرية بعضَ سطوع المخفي، وسحر الأسرار والطلاسم والتوريات..
الشعر نظام لغوي خاص، لكنه لا يقترح تعبيرا لما هو واضحٌ وجلي، بل يضع صوره في سياق ما تصنعه الاستعارات، وأن تمثيله لفكرة خرق المألوف والإزاحة، سيضعه أمام رهانات خلافية، أولها فقدان البراءة، وثانيها إخفاء وإرجاء معنى ما، وثالثهما الانحياز إلى موقف أيديولوجي آخر، ما يجعل هذا الثالوث محكوما بتحول الفقد، والإخفاء والانحياز إلى تورية سياسية، أو أيديولوجية للرفض أو الاحتجاج، أو لصياغة أفكار معارضة، ولبثِّ الإيهام، عبر صورٍ وشيفرات من الصعب بثَّ رسائلها علنا وظاهرا، حتى يبدو الأمر وكأن الشعر مُصمَمٌ لأنْ يكون مجالا للتأويل، وللاختباء خلف تقانة الاستعارة، مُكرها لغرض ممارسة التعمية على التصريح بقولٍ قد يُذهِب بصاحبه إلى مخالفة المقدّس والسائد والمهيمن في النص الحكومي أو الديني.
الشاعر ولعبة التهريب الاستعاري
علاقة الشاعر باللغة محفوفة بالإزاحات، وبالتوجس من الوضوح دائما، وهذا ما يجعل حقله التعبيري شبيها بحقل الألغام، مدسوسا بالغموض، وحافلا بالإثارة، وباعثا على الارتياب. هذا المركّب العلائقي يضعه عند لعبة أكثر خطورة، تبدأ من استفزاز النوايا، وتحويل لعبة الحواس، ولا تنتهي بالوقوف عند مكر الاستعارات، وباتجاه أن تكون القصيدة تدوينا مخادعا، احتفالا بمعانٍ مُهرَبة، أو نقائض تتوارى فيها مواقف وأوجاع واعترافات وخيانات، وأوهام تُبقي النص تحت سطوة عصاب اللغة، وتقانات الشاعر، الذي يحوز منح نصه طاقة للتوتر والإدهاش والتجاوز، أو لمواجهة عالمٍ تسكنه أساطير وخرافات وهيمنات، تصل علاقة اللغة بالخلق، وبفكرة أن يكون الشعر أصلا من أصول التدوين، أو خداعا يتوهمه الشاعر تطهيرا وخلاصا، رغم أن كثيرين قتلتهم قصائدهم، ووضعتهم إزاء تورية السوءات داخل القصيدة، حتى لا تكون لعبة، أو بيانا مضادا، أو مقبرة..
الهروب إلى الاستعارة هو خيار القصيدة، هو سرها، هو بحثها عن وهج المعنى، وعن سحر الفكرة، وعن أناقة البناء، إذ تؤدّي القصيدة المُدثرة باستعارتها نوعا من «عرض الأزياء» أو نوعا من الهتاف، والاعتراف، فكتابتها طقسٌ، وتصرّف إباحي بالخزائن، وبما يجعل القصيدة أمام رهانين، إمّا أن تذهب للأثر، أو للمحو، فالمتنبي وأبو تمام رغم الصحراء والمركزية السياسية، إلا أن أثر قصائدهما كان صادحا وعابرا للزمن، وأدونيس رغم تعدد مركزياته الثقافية، إلا أن قصيدته تحولت إلى مركبة فضائية، أو إلى وثيقة لقوننة الشعر، بوصفه تعاليا، وتهذيبا للمزاج، ولمراجعة الأفكار والمواقف من خلال القصيدة ذاتها..
أدونيس أكثر شعرائنا العرب الذين يعمدون، وبقصدية فاضحة إلى تهريب الاستعارات، ربما لأنه لا يطمئن لمكوث الشاعر العصابي في الثابت اللغوي والتاريخي، أو الوقوف عن رتابة أدائه في نظامها البلاغي العام، لذا يدرك أهمية أن يكون الشاعر قلقا، مُهرّبا، وليس حارسا للغة، أو لبوابتها القومية، وأن تكون القصيدة «غير مستريحة» لجوجة، هاتان الوظيفتان صارتا علامات لـ«الحداثة» ولوضع الشاعر عند خيارات الشك، وتقويض ذلك الثابت، إذ لم يعد أمام الشاعر سوى وظيفة التهريب، أي تهريب الأفكار عبر اللغة، أو إلى اللغة لكي تنسرب إليها التفاصيل الممنوعة، بما فيها ممنوعات الفكر، والحلول والشغف كما عند «الصوفيين» ولكي تنفض القصيدة عنها بقايا الرمل والحكايات والمغازي والنسائب، ولتبدو مهمة أدونيس الاستعارية واضحة باتجاه تقويض المعاني القديمة، ولإعادة النظر بهيكلة النظام الشعري، والسيطرة على التفريخ الشعري الذي ما زال عائما، ومهددا للسكنى بجوار اللغة، ومواجهة هذياناتها، التي تحولت عند كثيرين إلى طقس، وإلى توصيف، وإلى منابر تحتاجها الحكومات العربية مثل حاجتها للفقه، بهدف تغذية خطاب السيطرة على الناس، عبر خداعهم الاستهلاكي، أو عبر تقويض مركزياتهم القديمة، أو خلق دوافع عدوانية وعنصرية، تتغول فيه اللغة بوصفها خطابا استعلائيا له حرّاسه، ومنابره، ومنصاته، وسردياته.
حديث الشاعر المعارض، والمتهم بخيانة البداهة و”الراية” لا يعني تغافل شاعر السلطة، فكلاهما متناظران، وقصائدهما تنطوي على استعارات مكشوفة من خطاب الطاعة، والغلو، وحيث يكون فيها الشاعر خائنا لذاته، مقابل أن لا يخون الراية، والراية هنا بوصفها مجالا أيديولوجيا وعصابيا، وليس شأنا مكتفيا بذاته.
الشاعر والخروج عن السيطرة
قد تبدو سرديات الشاعر أكثر غلوا وتخيلا من سرديات الحكواتي، وقد تبدو لعبته مع اللغة قائمة على لعبة التوريات، لكنها تظل تحمل نذر الخطر، ليس لأن الشاعر خارج السيطرة، بل لأنه يُخضِع الكتابة إلى مناورات التأويل، والاستعارات السائلة، وهو ما يجعله موضع الشك، حتى إن كان يتلذذ بتلك المناورات.
الشكُّ عتبة القتل، إذ ستدخله السلطة في باب «الظنّ» وصولا إلى الزندقة، والإلحاد، والفتنة والكفر، والمعارضة والتآمر بالمعنى السياسي، مثلما سيكون بابا نقدياً لشعرنة مضادة عن صورة «الشاعر الخائن» على طريقة محمد الماغوط، الذي يسخر من خداع الكثيرين، ومن أوهامهم عن التاريخ والأوطان، التي يحكمها طغاة مستبدون، والتي تجعل من مفهوم «الخيانة» أمام اختبار وجودي، وعلى نحوٍ يجعلها وكأنها نوع من المواجهة مع الاستبداد والكراهية والسجن والمنفى، وحتى المقدس بوصفه مهيمنا مركزيا، والذي سيصنع بالمقابل نصا مركزيا. حديث الشاعر المعارض، والمتهم بخيانة البداهة و»الراية» لا يعني تغافل شاعر السلطة، فكلاهما متناظران، وقصائدهما تنطوي على استعارات مكشوفة من خطاب الطاعة، والغلو، وحيث يكون فيها الشاعر خائنا لذاته، مقابل أن لا يخون الراية، والراية هنا بوصفها مجالا أيديولوجيا وعصابيا، وليس شأنا مكتفيا بذاته.
كتاب الشاعر العراقي فوزي كريم « شاعرُ المتاهةِ وشاعرُ الراية، الشعرُ وجذورُ الكراهية» أثار أسئلة صادمة حول علاقة الشاعر بالسلطة، وبخيانتها، أو بالأيديولوجيا والتمرد عليها، إذ أدرك علاقته بالتاريخ والنمط، مقابل علاقته بذاته، أو بمتاهته الشخصية التي تصطنع للغة خطابا، وللقصيدة أفقا، وتكشف عن أثر طبيعة مركزية الأدلجة، وحتى «الوطنية» على الشاعر، ليس بكونهما قيودا، بل لأنهما تحولا إلى «مقدس» ينطوي على مرجعيات وعلى ضواغط، تدفع الشاعر للتأليه، وللقبول بنوع من مازوخيا التلذذ بـ«خيانة الذات الشاعرة» مقابل إشباع «الذات المؤدلجة» والذوبان في إيهاماتها الباذخة، مهما كانت إيهامات هذه الراية وطنية أو قومية أو أممية.
شاعر السلطة، أو شاعر الراية، أو شاعر الحزب، أو شاعر الحرب، أو شاعر الأمة والثورة وغيرها، توصيفات ترهن الشاعر للإضافة في السياق الوصفي والاستعاري، وتجعل من «المتاهة» النقيض النوعي لـ«الراية» نوعا من العبث، والضياع، لأنها تعكس خيانة الشاعر لقضاياه الكبرى، رغم أن مفهوم الانتماء، وبراديغما «المثقف العضوي» لا تعني طرد «مثقف المتاهة» فالمثقف العضوي – رغم كل الغلو في توصيفه – يظل مثقفا نخبويا، وأن صورته الأيديولوجية والحزبية الصارمة، لا تعزله عن القضايا العامة، بل تجعل علاقته الحيوية جزءا من النظام الثقافي، زمن علاقة هذا المثقف بالمؤسسات، وبالقوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة، التي تؤسس الكثير من أطروحاته على أساس وجوده في «الكتلة التاريخية» بوصفها عنصرا مهما في التقدم، وفي حركة التاريخ، وفي ربط المثقف بوصفه شاعرا أو باحثا في سياق العمل، بعيدا عن أحابيل اللغة، التي لا تبتعد كثيرا عن الرهانات الاستعارية، وعن «اللعب تاغوي» كما يسميه فيتغنشتاين، وعبر تمثيل ذلك في تمثيل المواقف، وفي صناعة الصور والاستعارات، بعيدا عن إكراهات طرده، واتهامه بـ«الخيانة» التي أضحت جزءا من قاموسنا النقدي والبلاغي العربي، الذي تقوّضت كثير من مركزياته، وصرنا نعيش معها غربة الرايات ومتاهة المنافي أكثر من متاهات اللغة.
كاتب من العراق