ليس ثمة جديد في القول بأن المصريين منقسمون، كانوا منقسمين قبل ثورة يناير/ كانون ثاني 2011، وعادوا لانقسامهم بعد توافق الثورة القصير، وهم كذلك قبل الانقلاب على الرئيس د. محمد مرسي، وبعد الانقلاب عليه. والمقصود هنا بالمصريين الشرائح المسيسة، بما في ذلك الطبقة السياسية، بالطبع، حزبية كانت أو غير حزبية.
وليس ثمة شك أن عملية عزل مرسي بقوة الجيش قد أنجزت في لحظة تجل صارخ لهذا الانقسام، بعد أن فشلت مصر السياسية في تأسيس مساحة كافية من التوافق خلال العامين ونصف العام من الحياة الديمقراطية الحرة. ولكن من السذاجة بمكان تصور أن ما شهدته مصر يوم 3 يوليو/ تموز كان نتيجة هذا الانقسام، وأن القوى السياسية المناهضة لحكم مرسي والإسلاميين، والشارع المؤيد لهذه القوى، كان من أطاح بالرئيس المنتخب ودفع مصر إلى الأزمة المستحكمة التي تعيشها الآن.
من عمل على إظهار مرسي خلال العام الأول من رئاسته بمظهر الرئيس الفاشل كان الدولة المصرية، وعندما استشعرت الدولة أن الرئيس، الغريب على مؤسستها وروحها وميراثها، يوشك القبض على مفاصل القرار في هياكلها المختلفة، قررت التخلص منه. تفاقم الانقسام السياسي في البلاد، لم يكن سوى لحظة مواتية لقرار الدولة إعادة فرض سيطرتها على مصر ما بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011.
ليس ثمة طريقة لتعريف مؤسسة الدولة الحديثة، الدولة التي بدأت في التشكل في أوروبا الغربية منذ النصف الثاني للقرن السابع عشر، ووصلت إلى مرحلة نضجها الأولى في بدايات القرن التاسع عشر؛ وأخذت، من ثم، في الانتشار خارج النطاق الأوروبي باعتبارها النموذج الأكثر فعالية للدولة. تنبع صعوبة التعريف، أولاً، من أن كل الظواهر السياسية ـ الاجتماعية تبدو دائماً أكثر غموضاً، ما أن نحاول تعريفها؛ وتنبع، ثانياً، من أن الظواهر ذات التاريخ المتراكم تستعصي عادة على التعريف. في مطلع القرن العشرين، قدم ماكس فيبر تعريفه الشهير للدولة، الذي يستند إلى الارتباط الوثيق بين مؤسسة الدولة واحتكار وسائل العنف، بمعنى وسائل العنف المتفوقة على أية وسائل عنف أخرى متاحة للشعب. ولكن تعريف فيبر، كما هو واضح، أخذ في الاعتبار الطبيعة القمعية للدولة وحسب، أي قدرة الدولة على السيطرة والتحكم، باعتبارها مستودع العنف الأكبر. ويغفل هذا التعريف، كما هو واضح، مقدرات الدولة الحديثة الأخرى، مثل سلاح الشرعية، الذي تتمتع به دولة ما، وفعالية الخطاب، الذي يلعب دوراً رئيسياً في عملية السيطرة والهيمنة، بدون اللجوء لأدوات العنف في أغلب الأحوال. كما يغفل التماهي المفترض بين الدولة والشعب، الذي أخذ في التجذر خلال القرنين الماضيين، سيما في الدول ذات المحتوى القومي.
قبل عقود قليلة، لخص تشارلز تيللي، في مقدمة كتاب حرره حول نشوء الدولة الحديثة في المجال الأوروبي الغربي، السمات الكلية للدولة والشروط الاجتماعية المؤسسة لحداثتها، في النقاط التالية:
تسيطر الدولة الحديثة على مساحة أرض متصلة ومحددة، وهي مصدر الشرعية الأعلى على هذه الأرض، بمعنى أنها مصدر القوانين والتشريعات.
أنها دولة تحكم مركزي، يتفوق مستوى مركزيتها على أي مستوى تمتعت به مؤسسة الدولة من قبل.
أنها مؤسسة تعلو على، وتتميز عن، أية مؤسسة اجتماعية أخرى.
أنها تستطيع فرض ادعاء السيطرة باحتكار متزايد للقوة داخل مناطق تحكمها.
في الدول الغربية الديمقراطية، تكفل هذه الدولة أنماط العدالة، حق التجمع، حرية الإعلام والنشر، حق التظلم، حماية الأقليات، الدفاع عن الحياة والملكية، مبدئياً وفي شكل عام، وليس بفعل نفوذ فرد ما أو الصلات الخاصة.
أخذ هذا النموذج للدولة في توطيد أقدامه في إسطنبول والقاهرة وتونس خلال العقود الوسيطة من القرن التاسع عشر، بسعي حثيث من رجال التحديث العثماني في العواصم الثلاث، وفي الهند والجزائر، بقوة الإدارتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية.
وبعد قرن من الزمان، أي مع منتصف القرن العشرين، كانت مؤسسة الدولة الحديثة قد أصبحت نموذج الدولة السائد في العالمين العربي والإسلامي، بل وفي العالم ككل. بدون أن تكون هناك مؤسسة دولة بالمعنى الحديث للدولة، يوصف البلد المعني بالفشل، لا يسمح له بالانضواء في النظام الدولي، ويستحيل أن يكتسب عضوية الأمم المتحدة.
كل مؤسسات الدولة الحديثة تسعى إلى الهيمنة والسيطرة على أرضها وشعبها، وكل مؤسسات الدولة تعيد إنتاج نفسها، جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد الآخر. النظام الديمقراطي لا يقتلع الدولة، ولا يقوض قدرتها على السيطرة والتحكم. ما يقوم به النظام الديمقراطي، بدرجات متفاوتة من بلد وثقافة وسياق إلى آخر، هو عقلنة العلاقة بين الدولة وشعبها؛ بمعنى أنه يجعل الشعب شريكاً من القرار، ويوفر للشعب فرصة دورية لمحاسبة ممثليه السياسيين، ولإدارتهم شؤون الدولة. بيد أن سمات الدولة، وعلاقة الدولة بالنظام الديمقراطي، ليست ذات طبيعة مصمتة أو ثابتة. عندما يكون للدولة تاريخ طويل ومتصل، كما هو حال الدولة في بلدان مثل مصر وتركيا والجزائر وتونس، يصبح لهذه السمات ملامح وشروط خاصة بها، تطورت في السياق التاريخي الجغرافي الاجتماعي الخاص بهذه الدولة. مثلاً، تختلف دولة لم تتعرض لاحتلال أجنبي طويل، كما تركيا، في جوانب عدة، عن دولة لم تزل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمتروبول الإمبريالي، مثل تونس والجزائر. ولأن تركيا خاضت نضالاً طويلاً من أجل التحول الديمقراطي، امتد لأكثر من ستة عقود، منذ أول انتخابات تعددية في 1950، أصبح للفكرة الديمقراطية جذور عميقة في ثقافة البلاد السياسية، بالرغم من سلسلة الانقلابات العسكرية التي عانت منها البلاد وتبلور نخبة سياسية اجتماعية مسيطرة. مصر، التي تحكمها مؤسسة دولة حديثة راسخة، وتحتفظ بجيش وطني كبير نسبياً، يحتل موقعاً مميزاً في بنية الدولة، كما في تركيا، تفتقد لمثل هذه التقاليد والثقافة الديمقراطية.
في ثورة يناير/ كانون ثاني 2011، أطاح المصريون بنظام حكم استبدادي، ورموز الطبقة الحاكمة التي مثلت ذلك النظام وتحدثت باسمه. ولكن الثورة لم تمس مؤسسة الدولة المصرية الهائلة، مترامية الأطراف. كانت الثورة حدثاً سريعاً، ولم يكن ثمة حاجة لاصطدام كبير وملحمي بين قوى الثورة ومؤسسة الدولة. وكان من الضروري أن تبدأ، بالتالي، مباشرة بعد انتصار الثورة، عملية إصلاح شاملة لجهاز الدولة، وإخضاعها لإرادة الثورة. ولكن العملية لم تبدأ؛ أولاً، لأن البلاد اختارت إطاراً دستورياً، أو شبه دستوري، للمرحلة الانتقالية، أو شبه دستوري، ولم تنتهج طريقاً ثورياً.
تنحى الرئيس مبارك عن منصبه، وسلم مقاليد الحكم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ وهو ما ارتضته البلاد وقواها السياسية. ولأسباب عديدة، ليس أقلها أهمية أن المجلس الأعلى هو أحد أهم مؤسسات الدولة، لم يكن هناك من دافع طوال المرحلة الانتقالية لإطلاق عملية الإصلاح، بأي صورة من الصور. أما السبب الثاني، فيتعلق بتلاشي لحظة الوحدة والتوافق القصيرة بين القوى السياسية، وعودة الانقسام الحاد الذي شاب الساحة المصرية السياسية قبل اندلاع الثورة، وفي صورة أكثر تفاقماً هذه المرة. الانقسام هو سمة الاجتماع السياسي العربي الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر، ولكنه في هذا السياق الخاص، سياق مسألة الدولة الحديثة ومعضلة إصلاحها وتطويعها، يحمل دلالة بالغة الأهمية.
كل النخب العربية، إسلامية وغير إسلامية، سواء عرفت نفسها بالليبرالية أو القومية أو الوطنية، وليدة المناخ الذي صنعته الدولة الحديثة، بتعليمها وقضائها ودستورها وثقافتها وفنونها. ولكن علاقة هذه النخب بالدولة ليست من نمط واحد، ونظرة الدولة إلى هذه النخب ليست واحدة. لعقود طوال، نظرت الدولة إلى القوى الإسلامية السياسية باعتبارها قوى خارجية، معارضة راديكالية، مكانها هو الهامش البعيد في أحسن الأحوال. وهذا ما جعل فوز مرسي بالرئاسة انقلاباً صارخاً على ميراث الدولة الحديثة وعلاقتها بالتيار الإسلامي السياسي. بفعل الانقسام السياسي الفادح بعد انتصار الثورة، لم تتشكل قوة ضغط كافية أثناء حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإصلاح الدولة وتطويعها للحكم الديمقراطي الذي جاءت به ثورة يناير/ كانون ثاني. وبمجيء مرسي للرئاسة، أصبح الانقسام السياسي حجر عثرة كبير في طريق عملية الإصلاح. كان مرسي يدرك أن عملية إصلاح الدولة وتطويعها هي المهمة الكبرى لرئاسته، وأنها تفوق في أهميتها وإلحاحها مواجهة الازمة الاقتصادية والمالية العامة. وكان يدرك، على الأرجح، حقيقة رؤية الدولة لرئاسته. ولكنه كان مقيداً، هو أيضاً، بالمسار القانوني الدستوري الذي اختارته البلاد، أو وجدت نفسها تختاره، بعد إطاحة النظام السابق. كما أن حالة الانقسام السياسي الفادح، وانحياز القوى السياسية الليبرالية وشبه الليبرالية، القومية والوطنية المصرية التقليدية، لجهاز الدولة القديم، فرض قيوداً إضافية. ولذا، فقد جاءت خطوات الإصلاح بطيئة ومتعثرة؛ وتحولت في كل خطوة منها إلى أزمة سياسية طاحنة في البلاد.
يحمل هذا الكيان الهائل، الذي نصفه بصورة تجريدية بالدولة، روحاً خاصة به، ويحتفظ بخطاب وتقاليد ومواريث خاصة، تؤسس معاً لشبكة بالغة التعقيد من المصالح، أو تصور المصلحة. وليس من السهل لتيار سياسي غريب على مؤسسة الدولة، تيار اعتبر لعقود طوال خارجياً وهامشياً أو خصماً معادياً، أن ينتقل من الهامش إلى المتن، ويمسك بالتالي بمقاليد الدولة. الحقيقة، أن الانتقال كان نظرياً وحسب، أو كان قانونياً، دستورياً، ولم يصبح فعلياً بعد في نهاية عام مرسي الرئاسي الأول. وبتصاعد مخاوف الدولة من الوافد الغريب إلى رئاستها، وجدت حليفاً ما في القوى الليبرالية والقومية والوطنية المصرية، التي رأت بدورها، في خضم الانقسام والصراع السياسيين، أن حضن الدولة، مهما كانت انتقاداتها السابقة لها، أكثر مدعاة للاطمئنان من وجود الإسلاميين في الحكم. هذا الاصطفاف هو الذي ولد لحظة الثالث من يوليو/ تموز، وخطوة الدولة السافرة لاستعادة سيطرتها ودورها المهيمن.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
الجهاز البيروقراطي الديناصوري في مصر او ما اسماه الكاتب “الدولة” هو لاعب اساسي – ان لم يكن اللاعب الرئيسي – في المشهد المصري . و يشمل هذا الجهاز ملايين الموظفين و الموظفات في الجيش و الشرطة و القضاء و التعليم و الصحة وباقي الوزارات و الهيئات. و هو ما اسماه البعض في مصر “الميري” و قالوا قديما : ” ان فاتك الميري اتمرمغ في ترابه ” وقد لمس كاتب المقال جانبا مهما من تحليل الواقع المصري و لكنه لم يتعمق في اسباب فشل الاخوان في الحصول على الحد الادنى من التأييد او الثقة من افراد هذا الجهاز. و هي من الاخطاء الفادحة التي وقعت فيها الجماعة و التي استغربت وقوعهم فيها رغم انهم – لعقود طويلة -كانوا من دعاة التغيير التدريجي !
وهذا المقال الممتاز للمفكر القدير الاستاذ بشير يوضّح لنا نحن أبناء الشعب العربي الكثير من الأمور التي نجهل دورها وفعلها في حراكنا العام من اجل التغيير الى الأفضل!!. وياليت مفكرينا وكتابنا العرب يحذون حذوه في التنوير والاعلام!. لقد بدأنا نفهم ما يجري حاليا في سوريا ومصر وتونس بل وفي كل الدول العربيه. ثوراتنا الربيعية لم تنته ولم تفشل بعد!! ولابد من الاستفادة من الدروس المريرة التي اودت بنا الى هذه الحاله المتمثلة في استعادة اركان الدولة العميقة سيطرتها ودورها المهيمن. هذه الدولة سوف تعمل فورا وبكل قوة على اجتثاث الاسلاميين ماديا ومعنويا !، فهل سيقدّم لها الاسلاميون وغيرهم من الفئات الثورية رقابهم على أطباق من الفضّ’؟!! بالتأكيد لا وألف لا؟ والأيام وربما السنين القادمة ستشهد تحولات كبرى تطيح بالظلم والطغيان والفساد وتقتلعها من الجذور.
هل يمكن أن نقول أن الإنسانية المصرية في خطر؟
شكرا لك يا د نافع هذا صحيحا ارجوا ان يقرئه كل المصريين