ينتمي الراحل سلامة كيلة إلى صنف من الماركسيين الأوفياء لفكرهم، إذ لم تشب تحليلاته أي نوازع مضمرة تستخدم المفاهيم الفكرية للتغطية على مخاوف وجودية تتعلق بطائفة من هنا أو جماعة من هناك. الكاتب الفلسطيني فهم الصراع في سوريا بوصفه صراعا طبقياً، بين طرف حاكم يتمتع بثراء فاحش، وآخر محكوم جرى إفقاره وإذلاله ضمن منظومة استبدادية تستمد قوتها من أجهزة الأمن.
فهو، لم يكن جزءا من الحالة الأقلوية التي اعتمدت إلى العدة الماركسية للهروب من الإقرار بأن الصراع السوري مركب، بحيث يتلابس فيه، ما هو طبقي شكلاً بما هو هوياتي مضموناً، والفقراء الذين يقاتلون عن الأغنياء يقومون بذلك ضمن تراتبية في طوائفهم، وليس ضمن صراع أصيل تفرضه أدبيات المادية التاريخية، عدا عن أن مفهوم الطبقة نفسه ليس صافياً بالمعنى الاجتماعي، بحيث يمكن اعتماده مدخلاً للتحليل.
صحيح أن كيلة خالف الجزئية التي تتعلق بالتحليل الهوياتي للحروب الواقعة في منطقتنا، لكن ذلك لم يكن بغرض توظيفات ضيقة، بل استكمالاً لمفاهيم وقناعات آمن بها، وواصل التحليل استناداً لها. والتمييز هنا ضروري جداً بين من يقرأ الصراع بأدوات ماركسية، انطلاقاً من قناعات صافية وآخر استدخل مع تلك القناعات مخاوف على طائفته، فأطلق مواقف متضاربة، تنم عن ارتباك يخفي دوافع غير تلك المعلنة، وكون كيلة فلسطينيا، أي بعيدا عن النزاعات الأهلية الباردة في المجتمع السوري، فقد يكون ذلك تفسيراً لانتفاء أي نزعة أقلوية عنده .
سلامة كيلة أراد فضح الاستبداد عبر تفكيك ما يظنه تكويناً اقتصادياً، فإذا به يصبح مادة يدافع بها الأقلويون عن أنفسهم
كتّاب مثل كيلة كانوا، من غير أن يعلموا، جزءا من آلة الاستغلال التي تريد أن تخفي الصراعات لصالح انتماءات تتلون عادة بالأيديولوجيات التي لم تتأصل في بلدانناً لأسباب كثيرة. فيمكن أن يصعد عند ماركسي أو قومي سوري أو بعثي مثلاً وعي طائفي يجري التعبير عنه بلغة أيديولوجية ما يجعل محاججته أمرا مستحيلا، إذ كيف يمكن النقاش مع وعيين، واحد معلن يجري توظيفه لصالح آخر مضمر وخفي.
وتجسير المسافة بين الوعيين عند أصحاب هذه النزعة، يجري بأفكار مثل تلك التي كان يدونها كيلة، حيث كان الأخير يمد هؤلاء بالبراهين والحجج التي تغذي وعيهم المعلن وتحصنه من أي مساءلة، هكذا، جرى تحويل الكاتب الماركسي إلى محامي دفاع عن وعي زائف يوظف بالضد مما يرمي، فكيلة أراد فضح الاستبداد عبر تفكيك ما يظنه تكويناً اقتصادياً، فإذا به يصبح مادة يدافع بها الأقلويون عن أنفسهم بدون أن يضعوا أنفسهم بموضع الأقلويين، أي بسلاح غيرهم.
وإذا كانت تحليلات كيلة المتعلقة بطبيعة الصراع السوري تصح جزئياً لناحية الزمرة التي تأسست حول النظام بفعل الفساد، فإن توظيف هذا التحليل كغطاء لدوافع طائفية، يمنع تطويره بشكل يشمل العناصر الأخرى، لاسيما الهوياتي منها، والأخير عامل لا يمكن إغفاله، تحت حجج ضرب الوطنية لأن هذه لا تتأسس إلا على قاعدة إزالة الغبن الواقع على جماعة بفعل نظام يستخدم جماعة أخرى، وربما أكثر.
كاتب سوري من أسرة “القدس العربي”