رغم التفوق الموسيقي اللافت، قد يكون الانطباع الأول عن ألبوم المغني البريطاني ميكا الصادر مؤخراً بعنوان «اسمي مايكل هولبروك» أنه ليس الأقوى بين ألبوماته، وبمقارنته مع ألبومه السابق «لا مكان في الجنة» 2015 نشعر بأننا نفتقد الكثير من الجنون والتمرد والتحدي والسخرية، ونتساءل هل كبر ميكا إلى هذا الحد خلال السنوات الأربع الماضية؟ أم أنضجته الآلام وروضته التجارب القاسية؟ يخبرنا عنوان الألبوم من قبل أن نبدأ في الاستماع بما حدث من تغيير، فهو اسمه الرسمي الذي تجنبه طوال حياته، وإن كان معروفاً لدى الجميع وليس سراً، لكنه لم يقدم نفسه أبداً بهذا الاسم الذي يشير إلى جذوره الأمريكية، حيث ولد في بيروت لأب أمريكي كان يعمل في لبنان، وأم سورية لبنانية، فجده لأمه سوري وجدته لأمه لبنانية، ولم يقل ميكا يوماً إنه أمريكي، وإنما كان يعلن عن نفسه طوال الوقت كنصف لبناني بدون أن يذكر شيئاً عن النصف الآخر، وإلى اليوم لا يزال يعتبر نفسه مهاجراً أتيحت له فرصة النجاة من أهوال الحروب وتبعاتها، رغم أنه يشعر بالحنين الدائم إلى مكان ولادته وبيته ومهد طفولته، وكلما زار مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان من خلال عمله مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قال، إنه ربما كان أحدهم في زمن آخر، إن لم تتمكن أسرته من الهجرة في الثمانينيات إلى باريس ثم إلى لندن.
منذ أن بدأ ميكا في الغناء عام 2007 وتعرفنا عليه للمرة الأولى، تعرفنا في الوقت نفسه على أسرته التي ظهرت (ما عدا الأب) في أول أغنياته المصورة «غريس كيلي» فشاهدنا الأم والشقيق الأصغر والشقيقات الثلاث ياسمين وزليخة وبالوما، هذه المرة تحضر الأسرة صوتاً في الألبوم الجديد، فتغني الأم وبالوما بعض المقاطع في أغنية «حب صغير» التي يبدأ بها الألبوم وينتهي بنسخة أخرى منها أضيفت إليها مقاطع الأم وبالوما، وهي من أجمل أغنيات الألبوم التي تُظهر قوة الجانب الكلاسيكي في شخصية ميكا الموسيقية، فالفنان الذي يعد أحد أهم نجوم البوب في العالم، كانت نشأته كلاسيكية بحتة، حيث الدراسة منذ الطفولة في الكلية الملكية للموسيقى في لندن، والتدرب الأوبرالي لسنوات طويلة على يد سوبرانو صارمة، وهو لم يستمع إلى فريق الروك الإنكليزي «كوين» على سبيل المثال إلا في السادسة عشرة من عمره.
كانت أغنيات ميكا في السابق مليئة بالصراع طوال الوقت، والتعبير عن الرفض لكل ما لم نختره بأنفسنا، وتم فرضه علينا، سواء كان اسماً أو ديناً أو هوية
بدت مشاركة الأم المريضة مؤثرة وهي تغني بصوت متعب لكنه جميل، عن «حب صغير ربما يرحل يوماً لكنه لن يُنسى» وكان أسلوبها في الأداء بطيئاً وأقرب إلى الإلقاء الملحن، واعتنى ميكا كثيراً بهذا الدخول الغنائي الوقور، وتبعه بتصاعد موسيقي رائع للكمان والوتريات في ما يشبه الروندو، وتبادل غنائي مليء بالمشاعر بين الأم وكورال الأطفال، أما بالوما فتغني بأسلوب مطابق تماماً لأسلوب ميكا في الغناء، لم يميزه سوى اختلاف الصوت، ولم يقتصر حضور بالوما في الألبوم على مشاركتها الغنائية القصيرة، فنستمع إلى أغنية بعنوان «بالوما» كتبها ميكا عن معاناة شقيقته وخضوعها لفترة طويلة من العلاج بعد نجاتها من الموت بأعجوبة، ولا يخفى الألم العميق في صوته وأدائه للأغنية، رغم كلماتها الداعمة لشقيقته وتعبيره عن ثقته في قدرتها على الطيران بجناح مكسور في مواجهة الرياح القوية.
كانت أغنيات ميكا في السابق مليئة بالصراع طوال الوقت، والتعبير عن الرفض لكل ما لم نختره بأنفسنا، وتم فرضه علينا، سواء كان اسماً أو ديناً أو هوية، والهوية تحديداً كانت هاجساً وموضوعاً فنياً حاضراً في مشروعه الغنائي منذ بدايته، واستطاع من خلال الموسيقى أن يصنع هويته الخاصة وعالمه الذي ينتمي إليه، كما أنقذته الموسيقى في طفولته من أزمات كبرى، منها إصابته باضطراب الديسلكسيا وتعثره في الدراسة بسبب تنمر التلاميذ ضده، عندما أتى من باريس إلى لندن في التاسعة من عمره، ولم يكن يستطيع أن ينطق أبسط الكلمات الإنكليزية بشكل صحيح، وتناول في أغنياته مثل هذه المشكلات وغيرها كالصراع مع المجتمع وأحكام الآخرين، وعبّر بحرية عن خلافه وصدامه مع الكثير من الأفكار السائدة.
لكن في ألبومه الجديد يبدو أنه تم التصالح مع الكثير من الأمور، فأغنية «بالأمس ذهبت إلى الجحيم» وعلى عكس ما يوحي عنوانها، هي اعتراف وقبول بوجود الإله في كل ما مرّ به من خير وشر وفرح ودموع، ويبدو أنه انتهى ذلك القلق القديم حول العقاب الإلهي وعدم القبول به في الجنة، وكأن العلاقة اتخذت بعداً آخر متجاوزاً للمفاهيم السابقة، ويغلب النضج بشكل عام على الألبوم حتى إن ردد لفظاً خارجاً في أغنية «غداً» للتعبير عن أنه لا يهتم بالغد ولا يخشاه، فإن ذلك من علامات النضج أيضاً، وربما من علامات التعب والاستسلام والانهزام أمام ما لا يمكن التحكم به، أما الحب فهو هادئ مستقر ولم تعد مشاهد الحب في هوليوود تبدو ضئيلة إلى جواره كما في السابق.
يواجهنا الألبوم بحقيقة أن ميكا لم يعد ذلك الفتى الجامح المتمرد، وأننا أمام مرحلة جديدة من مسيرته الفنية أكثر عمقاً وتمكناً من موسيقى البوب، وعلينا أن نستمع إليه من الآن بأذن مختلفة تتقبل الجديد وتكف عن المقارنة مع الماضي، من أجل القدرة على تذوق جماليات الموسيقى الأكثر تفوقاً في هذا الألبوم الذي يقدم الدليل على أنه يمكن الاستماع في 2019 إلى موسيقى رائعة تستطيع أن تنافس موسيقى السبعينيات والثمانينيات.
٭ كاتبة مصرية