غدا تحل الذكرى الواحدة والسبعون لثورة 23 يوليو/تموز 1952 بقيادة جمال عبدالناصر، وقبل أسابيع، اجتمع ما يسمى «مجلس النواب» المصري على عجل، وبتوجيهات «الريموت كونترول» إياها، ووافق على قرار بتغيير اسم «أكاديمية ناصر للدراسات العسكرية العليا» وحذف اسم ناصر، وبدت القصة مثيرة للسخرية، تماما كما فعل أسلافهم قبل عقود، حين حذفوا اسم «بحيرة ناصر» في إعلامهم الرسمي، واكتفوا في وصفها باسم «بحيرة السد» وهي أكبر بنك مياه عذبة في العالم، وكأن تغيير الأسماء يزيل المضامين والجواهر، وينسى الناس اسم جمال عبد الناصر، الذي تحفظه ذاكرة أغلب المصريين والعرب في القلب والعقل والوجدان، وكانت صورة ناصر، الذي رحل عن عالمنا قبل نحو 53 سنة، هي صورة الزعيم التاريخي الوحيد، المرفوعة على رؤوس المتظاهرين في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وفي موجتها الكبرى الثانية في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، وبين الثورتين الشعبيتين الاحتجاجيتين «عروة وثقى» لا تنفك، فقد كان الوضع في مصر عشية ثورة 25 يناير على النحو التالي، جماعة «اليمين الثروي» الناهب على كراسي السلطان، وجماعة «اليمين الديني» التكفيري على كراسي المجتمع المتحلل، وبعد خلع الرأس دون تغيير النظام، انتقلت جماعة «اليمين الديني» إلى كراسي السلطان، ودون تغيير جوهري ولا شبهة تغيير في الاختيارات الأساسية للنظام، المبنى أصلا على قاعدة العداء لاختيارات واسم ورسم جمال عبد الناصر، منذ أن جرت المفارقة المأساوية بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وخذلت السياسة حد السلاح المنتصر، وبجيش العبور الذي بناه عبد الناصر من نقطة الصفر بعد هزيمة 1967، وخاض به ومعه حرب الألف يوم في استنزاف جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقبل أن تأتي لحظة حرب التحرير، رحل عبد الناصر فجأة بأقدار الله، تاركا لمصر جيشها الجديد، وإن تغير الرأس السياسي، وكان ما كان بعد حرب أكتوبر، وتفكيك نهوض مصر الصناعي والاجتماعي، ودوس الذين «هبروا» فوق دماء الذين عبروا، وبدء رحلة انهيار مصر المتصلة بآثارها إلى اليوم.
والذين يريدون محو اسم وصوت وصورة جمال عبد الناصر، لا يدركون الحقائق الكبرى في سيرة الرجل، ولا طبيعة بطولته في التاريخ المصري والعربي، فلم يكن قائدا عسكريا ينتصر وينهزم وتتوارى قصته، بل كان تلخيصا في شخص لأحلام أمة، ولآمالها في اقتحام سباق العصر الحديث، وهو ما يفسر ارتباط الوجدان الجماعي باسمه، وحيازته لتأييد الناس الجارف حتى بعد هزيمة 1967، وتدفق فيضان الناس التلقائي بالملايين لإعادته إلى موقع القيادة في 9 و10 يونيو 1967، والاستقبال الأسطوري المليوني للقائد «المهزوم» في الخرطوم، عشية عقد القمة الشهيرة «قمة اللاءات الثلاث» وشهود جنازته غير المسبوقة ولا الملحوقة في مطلق تاريخ البشرية كلها، واتصال شعبيته الغلابة حتى بعد عقود طويلة على رحيله، فلم يكن حين رحل قد انتصر بعد، بل رحل وهو واقف على الجبهة، لم يسلم بهزيمة فادحة وقعت، ويعاند الريح السموم طلبا للنصر بالمعنى الحربي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري الأوسع، يواجه تلالا من المشكلات والتحديات، ويسعى لتلبية أحلام أغلب الناس في بناء نظام جديد ديمقراطي سياسيا واجتماعيا، ومات وهو يسعى إلى حلمه وحلم أمته، مات على بطولة «القوس المفتوح» وصار اسمه عنوانا لكل من يحلم، ويريد أن يكمل الحلم على طريقته، فلم يكن رومانسيا محلقا، بل كان يطارد حلمه منطلقا من واقعه، ولم تكن مصر في أيامه كماً مهملا ولا منسياً، بل كانت القاهرة عاصمة الجنوب وحركات التحرير وشعوب عدم الانحياز.
الذين يريدون محو اسم وصوت وصورة جمال عبد الناصر، لا يدركون الحقائق الكبرى في سيرة الرجل، ولا طبيعة بطولته في التاريخ المصري والعربي
كانت موسكو وواشنطن على قمة عالم «ثنائي القطبية» وقتها، وكانت القاهرة هي الصوت الآخر الثالث، وقد لا يتسع المجال هنا لتعداد إنجازات عبد الناصر ولا إخفاقاته، فقد كان يملك خواص قيادة فريدة موهوبة، بينها قدرته الهائلة على نقد عمله، والمبادرة إلى «التصحيح الذاتي» للأخطاء والخطايا، وفي عام 1964، بعد أقل من 12 سنة على قيام ثورته المتفردة، وبعد حرب السويس، والشروع في بناء السد العالي، وبعد قوانين الإصلاح الزراعي والتمصير والتأميم، وحملة التصنيع الشامل المدني والعسكري، وبعد إخفاق الوحدة بالانفصال، والذهاب العسكري لنصرة ثورة اليمن وجنوبها، بعد نصرة ثورة تحرير الجزائر، وكل بلد عربي وافريقي، وبعد سخريته الخالدة من المخابرات المركزية الأمريكية بإنشاء «برج القاهرة» على نفقتها دون أن تعلم، وبعد التغييرات الهائلة في الهيكل الاجتماعي والهيكل الاقتصادي، وعلى الرغم من خطط أمريكا المتواصلة لاغتياله، وامتداد خطوط الوصل بين مؤامرات الخارج وجماعات معادية اجتماعيا وأيديولوجيا في الداخل، ورغم ضعف تنظيمات السلطة وترهلها البيروقراطي والأمني، رغم كل المخاطر والعواصف، كان عبد الناصر يقرر إخلاء السجون من المعتقلين السياسيين كافة عام 1964، ثم اضطرته الظروف اللاحقة إلى عودة للقبضة الحديدية مع انكشاف مؤامرة 1965، وأعاد اعتقال نحو خمسة آلاف من جماعة «الإخوان» ورغم وقوع هزيمة 1967 في ما بعد، وكان سببها الرئيسي عزله عن العلم الواجب بما يجري في الجيش، وسيطرة جماعة عبد الحكيم عامر الجهولة المتسلطة، التي تخلص منها بعد الهزيمة، وراح يراجع الأوضاع كلها، ويبني جيشا محترفا مؤهلا بأفضل أساليب العصر، ويفرج في موجات متلاحقة عن ما تبقى من المعتقلين السياسيين، وإلى أن تراجع عدد المسجونين السياسيين يوم رحل عبد الناصر، وصاروا 273 شخصا لا غير، بينهم عدد من المتهمين أو المدانين بتهم تجسس لحساب «إسرائيل» والمخابرات الأمريكية والغربية عموما، وعلى الرغم من فقد مصر لعوائد قناة السويس وبترول سيناء بعد الهزيمة، فقد راح عبد الناصر، يعيد صياغة المشهد العربي، ويوزع الأدوار بين دول دعم ودول مواجهة، ويحشد جبهات الجنوب العالمي من وراء القضية العربية، ويطرد نفوذ «إسرائيل» من عموم افريقيا بلدا وراء بلد، ويدعم المقاومة الفلسطينية، ويعامل «حركة فتح» البازغة وقتها، كأنها «فرقة في الجيش المصري» بتعبير الأستاذ (هيكل) ويخوض معها معاركها من وراء خطوط الاحتلال، ودون أن يغفل عن مواصلة أشواط التنمية في الداخل المصري، وكان الناتج المحلي الإجمالي لمصر سنة 1965، وبأرقام البنك الدولي المعادي منهجيا لتجربة عبد الناصر، يعادل 5100 مليون دولار سنويا، بينما كان الناتج السعودي البترولي وقتها لا يزيد على 2300 مليون دولار، وكان الناتج القومي لكوريا الجنوبية في حدود 3000 مليون دولار، وكان سعر صرف الجنيه ثابتا أمام الدولار الأمريكي، وبلغت قيمة الجنيه 2.5 دولار أمريكي، وظلت تنمية مصر الاقتصادية والصناعية تناطح تنمية كوريا الجنوبية حتى حرب 1973، ولا حاجة لأحد أن يقارن بين ما كان أيام عبد الناصر، وما جرى قبلها أو بعدها، فقد حققت مصر بين عامي 1956 و1966، وبأرقام البنك الدولي ذاتها، حققت أربعة أضعاف ما جرى من تنمية في أربعين سنة قبل ثورة 1952، وما من حاجة طبعا للمقارنة مع ما جرى في مصر بعد حرب 1973، فالأرقام ناطقة زاعقة ومعروفة للكافة، كان الحد الأدنى للمرتبات في ستينيات عبدالناصر 18 جنيها، كانت تكفي لشراء 60 كيلوغرام من اللحم وقتها، ثمنها اليوم 24 ألف جنيه، والدولار الواحد يساوى أربعين جنيها مصريا اليوم، والديون الخارجية اليوم تزيد على 165 مليار دولار، بينما كانت ديون عصر عبد الناصر كله في حدود 1700 مليون جنيه، كانت في أغلبها ديونا عسكرية، وتنازل عنها الاتحاد السوفييتي في ما بعد، وبحساب فوارق الأرقام والقيمة، يفهم المرء ببساطة، سر الاندفاع المذعور إلى حذف اسم ناصر من فوق الواجهات واللافتات، وعلى ظن ساذج، أنهم بذلك يتوقون الثورات وعواقبها، ويمحون الذكرى واسم صاحبها، الذي أمم قناة السويس عام 1956، ولم تكن لتعود إلى مصر مع انتهاء فترة الامتياز الأجنبي عام 1968، بل كانوا يعدون لإدارتها دوليا بعيدا عن مصر، التي تجنى اليوم نحو عشرة مليارات دولار سنويا من عوائد الملاحة وحدها، إضافة لضمانات السد العالي، الذي بناه جمال عبد الناصر، ويحجز من ورائه في «بحيرة ناصر» و»مفيض توشكى» ما يزيد على خمسة أمثال نصيب مصر المقرر سنويا (55.5 مليار متر مكعب) تساوى في قيمتها اليوم، بتكاليف الوسائل البديلة، أرقاما لا تحصى ولا تعد من تريليونات الدولارات، وتحمى حياة مصر والمصريين في أوقات سخاء النيل وفيضانه، كما في كوارث الجفاف والفيضان.
كاتب مصري