اشتباك الرأسمالية والديمقراطية الغربية

الأسئلة حول النظم الديمقراطية والتشكيك في مدى تمثيلها لرغبات المواطنين قديمة، وبخلاف شعوب الجنوب المنبهرة بكل ما يأتي من الغرب لدرجة أنها لا تفكر بتحليله أو النظر في معايبه، فإن كثيراً من الغربيين بدأوا اليوم بالتساؤل عن حقيقة هذا النظام ومدى نجاحه في التعبير عنهم وتمثيلهم وتحقيق تطلعاتهم. سؤال العلاقة بين الديمقراطية ورأس المال بدأ بفرض نفسه بقوة في أكثر من موقف، خاصة في الولايات المتحدة التي يشتبك فيها رأس المال بالسياسة لدرجة الاندماج. التدخل العسكري في العراق وما نجم عنه من مآس وانتهاكات ما تزال آثارها باقية حتى اليوم، كان من أهم الأحداث التي دعت للتفكير مجددا في ذلك الاشتباك وتأثيره في النظام السياسي ديمقراطي المظهر.
نذكر هنا بأن قرار الحرب الأمريكية المفاجئ والخطير كان بلا شعبية ولا تفويض داخلي، لدرجة تجعلنا نقول إنه من النادر أن تجد مواطناً أمريكياً، من خارج الطبقة السياسية، متحمساً لتلك العملية، بل إن المتحمسين لها، حتى في داخل تلك الطبقة، لم يكونوا سوى بضع دوائر معينة. مثال الغزو العراقي، مع أسئلته الأخلاقية الكثيرة، كان فيه تحدٍ كبير لمفهوم الديمقراطية، حيث تبين لعامة الشعب أن رفضهم لتدخل بلادهم في شؤون دول أخرى، أو رفضهم دفع ثمن مغامرة عسكرية، وتعريض حياة العسكريين وبقية الأمريكيين للخطر هو بلا قيمة. في ذلك البلد الديمقراطي يمكنك أن تخرج في مظاهرة تجمع فيها ملايين الناس، لكن من دون أن يؤثر ذلك في القرار السياسي المعد سلفا.

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أصبحت الديمقراطية هي القيمة التي يتم تقسيم العالم على أساسها إلى دول حرة متقدمة اجتماعياً وسياسياً وأخرى أوتوقراطية

يتضح الأمر أكثر حين ننتبه لحقيقة الارتباط بين المال والسياسة في مسألة السيطرة على العراق، حيث لم يمر وقت طويل حتى انتبه الناس إلى أن الأمريكيين لم يكونوا معنيين بمنع استخدام أسلحة الدمار الشامل، التي لم تكن موجودة أصلاً، ولا بإنشاء ديمقراطية محلية، وأن العملية برمتها لم تكن سوى تنسيق بين لوبي بعينه ومجموعة من رجال الأعمال، الذين يجمعون بين الوظيفة السياسية والتجارة في مجالات مختلفة، على رأسها النفط. في الديمقراطية الغربية ستكون للناخبين فرصة لاختيار من يمثلهم، لكن الخيارات تظل محدودة ومتلاعباً بها، أما القرارات الكبيرة كقضايا الحرب، أو ما تصنفه القيادة السياسية على أساس أنه مصلحة عامة، كما حدث خلال الأعوام الأخيرة من إجراءات وتقييدات بذريعة كورونا، فتظل غير مطروحة للنقاش العام، على طريقة «الأخ الأكبر»، الذي يعطي الحق لنفسه في أن يقرر بالنيابة عنك.
الحراك الشعبي الرافض للانخراط في الحروب، يشبه التظاهرات الأخرى الرافضة لسياسات التقشف، فاليوم يخرج الملايين من الأوروبيين في مطالبات بزيادة الأجور، أو رفع سن المعاش أو زيادة الدعم لمواجهة التضخم، لكن من دون أن يكون لكل هذه الحشود وزن، فأقصى ما ينتج عنها هو أن تتم تغطية التظاهرات في النشرات الإخبارية، وأن تقابل بمزيد من الوعود والكلمات الطيبة من قبل السياسيين. كانت الديمقراطية هي القيمة التي يتعالى بها المعسكر الغربي على المعسكر الشيوعي المنافس. بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أصبحت الديمقراطية هي القيمة التي يتم تقسيم العالم على أساسها إلى دول حرة متقدمة اجتماعياً وسياسياً وأخرى أوتوقراطية. بالمقابل كانت الأسئلة عن حقيقة التمثيل الشعبي والدور الذي يلعبه المال السياسي، الذي يسمح لأشخاص بتقلد أكبر المناصب فقط لمجرد قدرتهم على تمويل الحملات الانتخابية وشراء الولاءات، كانت تدفع للتفكير بأن الفروق ليست فعلاً كبيرة بين الجانبين. في الولايات المتحدة، التي سمح نظامها الديمقراطي، بوصول الملياردير دونالد ترامب لسدة الحكم، تكتسب اللوبيهات الاقتصادية، التي تستطيع التدخل لدعم مرشح وإغراق آخر، قوة واعترافاً. المثال الأوضح هنا هو صوت لوبي السلاح الذي يبدو أقوى، حتى إن كانت الغالبية تفهم خطورة انتشار السلاح، وتشتكي من الجرائم التي ترتكب بسبب سهولة اقتنائه، كذلك الأمر مع لوبي الصناعات ولوبيهات المنتجات الغذائية أو العقاقير، التي يقوم معظمها بالإنتاج من جهة، وبتمويل دراسات مادحة لذلك الانتاج أو مقللة من أضراره الممكنة من جهة أخرى. هذه الملاحظات دفعت عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي صاحب كتاب «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين» للقول بأن المجتمعات لا يمكن أن تكون رأسمالية وديمقراطية في الوقت ذاته، وهو ما يعيد إلى الأذهان مقولات سبق أن رددها منظرون من اتجاهات مختلفة ككارل ماركس وفريدريك هايك.
في مقابل هذا، يدافع أكاديميون مثل توربين إيفيرسن وديفيد سوسكيس في كتابهما: «الديمقراطية والرفاه» عن النظام الديمقراطي الغربي، وعن نجاحه في تحقيق المساواة الاجتماعية ورفع مستوى المعيشة للمواطنين. وفق ما ذهب إليه الكاتبان في هذا الكتاب، فإن المنضمين للنادي الديمقراطي، يندر أن ينحدروا مرة أخرى للشمولية، خاصة بعد أن يتذوقوا ثمرات التعددية والديمقراطية، وهي فائدة تكفي بنظرهما لغض النظر عن كل الإخفاقات. «ديمقراطية الرأسمال» أو «ديمقراطية السوق» مصطلح حديث ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية للإشارة إلى المجتمعات الغربية، التي تجمع بين السوق الحر والليبرالية السياسية. بدت هذه المجتمعات في حقبة ما بعد الحرب ناجحة لكونها استطاعت أن تنقل الشعوب الأوروبية من جحيم الدمار إلى «دولة الرفاه»، التي كانت تزعم أنها قادرة على الموازنة ما بين الحق في الملكية والنجاح الفردي والتنافسية، والحقوق الاجتماعية الأخرى، وعلى رأسها حق العمل في ظروف إنسانية وبأجور مجزية. ظل أصحاب «ديمقراطية الرأسمال» فخورين بها وهم يعتبرون أن بإمكان هذا النظام، الذي يعتمد الانتخاب والحريات ويؤسس لدولة القانون، أن يصحح أخطاءه وإخفاقاته إن وجدت، الأمر الذي كان يبدو مقنعاً من ناحية المظهر.
الجديد هو أن أصوات الانتقاد الداخلي أصبحت أعلى، على الرغم من أنها مكتومة وغير قادرة على إيصال اعتراضها. في الوقت الذي كانت فيه تلك الأصوات تلفت لوجود خلل داخلي وبنيوي في النظام، كانت المؤسسات السياسية الغربية تصر على وصف نفسها بالمجتمع الحر والمثال الذي يجب أن يحتذى. تكتفي تلك المؤسسات بالإشارة إلى أماكن ودول أخرى في العالم تصفها بالأوتوقراطية، كأنها تريد القول إن على الشعوب الغربية أن تحمد الله على ما هي عليه. قبل أسابيع نشر مارتن وولف أستاذ الصحافة المالية، وأحد خبراء مجلة «فايننشال تايمز» كتابه: «أزمة الرأسمالية الديمقراطية»، الذي يعتبر إضافة لسلسلة من الكتب التي تقدم نقداً لاذعا للحكومات الديمقراطية. يرى وولف أن الحكومات الغربية أصبحت بشكل تدريجي خارج نطاق المساءلة من قبل الشعب، ويمضي بعد ذلك لتقديم تحليلات علمية وإحصاءات للتدليل على انخفاض شعبية الحكومات «المنتخبة» ولإثبات أن النسبة الأكبر من الناس غير راضين عن أدائها ولا يعتبرون أنها تمثلهم، على الرغم من أنهم، نظرياً، من اختارها. هذا الانحسار في شعبية «النظام» يبدو بالنسبة لوولف أمراً مشتركاً بين أعرق الديمقراطيات. تبين النقاشات القليلة التي جرت منذ صدور الكتاب، كالندوة التي نظمتها مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية في الثامن من هذا الشهر، والتي حظيت بمتابعة ومشاركة واسعة، أنه سيكون لأفكار وولف، التي تجمع بين التذكير بأزمة الديمقراطية، والتساؤل عن أسباب التراجع الاقتصادي وحقيقة قيم العدالة الاجتماعية الغربية، صدى كبير، خاصة مع تركيزه على التناقض بين الديمقراطية التي تدعي المساواة السياسية والرأسمالية المبنية على اللامساواة في الأجور.
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نديم:

    “مثال الغزو العراقي”
    لا، نقول غزو العراق
    هناك مبالغة في ما يذهب إليه وولف. المتتبع لمقالاته يجد أنه من أشد المدافعين على ما يسميه ديمقراطية السوق ونقده لا يعدو إلا نقد للفت الانتباه وإنقاذ النظام من الدخول في هاوية وليس لتغييره لأن أزمات الرأسمالية كما ذكرت أعلاه بنيوية. باختصار نقد وولف هو نقد من داخل المنظومة الفكرية أي من طرف ليبيرالي يرغب في الرجوع إلى ما قبل 2008/09 حين كانت الفايننشيل تايمز تطلق على مهندسي الرأسمال المالي لقب” أسياد الكون”.

إشترك في قائمتنا البريدية