قبل فترة أعدت إرسال تغريدة لإيلون ماسك يسخر فيها من ادعاء الولايات المتحدة بعدائية إيران وبأنها تشكل تهديداً مباشراً لها، وذلك من خلال إرفاقه لصورة تبين كل المواقع العسكرية الأمريكية المحيطة بإيران، مشيراً من خلال تلك الصورة إلى حقيقة أن أمريكا هي التي أتت إلى المحيط الإيراني وملأته بالقواعد العسكرية وليست إيران هي التي ذهبت لأمريكا بأسلحتها. كانت الصورة والتعليق غاية في الذكاء، حيث يقول التعليق (والترجمة لي): «انظروا للكيفية التي وضعوا بها دولتهم بالقرب من قواعدنا العسكرية»، في إشارة إلى الشكوى الأمريكية الأبدية لـ «ضربني بوشه على إيدي» والمنهجية الأمريكية الأبدية لـ «ضربني وبكى، سبقني واشتكى».
وفي خضم ما نحن فيه من معركة مرعبة غطت من خلالها أجساد الأطفال وجه السماء وملأت الأرض وحرقت القلوب حول العالم أجمع، أرسل أحدهم معلقاً في تويتر على «شيعيتي» التي تظهر بازغة مع كل «اختبار» نمر فيه، مشيراً إلى «انتمائي الإيراني» الذي لا بد أن يطفو ولو من خلال تغريدة، داعياً لكشف وجه ليبراليتي الزائفة، حسب ما أتذكر من نص التغريدة. ولقد لفت تعليقه نظري لأزمتي، وأتصور عدداً كبيراً منا في العالم العربي، الوجودية الفكرية الحالية، ولتغير مسار توجهاتي السياسية الأيديولوجية، الذي هو تغيير يحدث اليوم إرادياً ومع سبق الإصرار والترصد.
لقد دعتنا أزمة غزة لمراجعة الكثير من الحسابات، ولتفعيل انقلاب حقيقي في المواقف، لربما أكثرها شعبية هو موقفنا الجمعي، وأخص بالذكر في الكويت، المقاطع للشركات الموالية للكيان الصهيوني، حيث أحدثنا كلنا في عموم العالم العربي «طعجة» مؤلمة في خاصرة الغرب الاقتصادية، ولو رمزياً. لكن مراجعة الحسابات لم تتوقف حد سلوكنا الاستهلاكي، بل تعدته فعلياً إلى الأفكار الجذرية التي تشكل داخلنا الثقافي. لقد بينت فاجعة غزة نوعية الموقف الغربي تجاه المبادئ، التي ما زلت بالتأكيد أؤمن بها، حين تتعارض هذه المبادئ مع المصالح وموازين القوى، مما أثبت تماماً أن المسطرة ليست، ولم تكن في يوم، واحدة، وأن تفعيل مفاهيم حقوق الإنسان الشريفة، التي لا ننفي دور الغرب المعاصر في تنظيمها وتثبيتها داخلياً في مجتمعاته المختلفة مما أزهر الحياة فيها وطورها لمواطنيها، إنما هو قيد المصلحة وتطبيقها رهن بالنتيجة السياسية المأمولة منها.
لقد سقطت آخر الأقنعة الحكومية الغربية، التي كانت أصلاً شفافة فاضحة، ومعها سقط إيمان العالم بمنظومة المفاهيم الحقوقية التي ما كان يجب لها أن تسقط وما كان يفترض بها أن تهتز بسبب فشل التطبيق الغربي. لكن هذا ديدن النفس والعقل البشريين، الفكرة ترتبط بالتطبيق وبشخص المطبِّق، فإذا سقط المطبِّق، سقطت معه فكرته مهما كان شرفها ومثاليتها. لقد نسفت الحكومات الغربية بمواقفها المتخاذلة النتاج الحقوقي الحضاري الذي كلف مئات السنوات وآلاف الأرواح، ليذهب هذا النتاج العظيم «في رجلي» النفاق والانحياز للدولار على حساب أرواح الأطفال وأجسادهم.
وعليه، أؤكد لصاحب التعليق المذكور آنفاً ولكل من ربطني في يوم بمنبتي «الفارسي» الذي تركه أجدادي خلفهم منذ ما يزيد على الثلاثمئة سنة ليستقروا في الكويت والذي ما زلت رغم المسافة الزمنية والبعد الجغرافي عظيمة الفخر به، أن الحكومة الإيرانية، رغم فواجع أفعالها، أشرف بكثير من الحكومة الأمريكية التي، ويا سبحان الله، ما زالت تهبط بعتادها الحربي على الدول المنكوبة معنونة احتلالها تحريراً، وترسل جيوشها لتقف أمام الشعوب العزلاء معلنة جرائم حربها دفاعاً عن النفس؛ تمول الجماعات والأحزاب الاستشكالية باليمين، وترفع عليهم راية حرب الإرهاب باليسار. منذ بداية تأسس الدولة الأمريكية، لم يصل لعقل حكوماتها درس من دروس أمتهم التاريخية، التي كان أفجعها بالنسبة لهم الدرس الفيتنامي. ما زالوا يعاملون العالم بعقلية «الكاوبوي» وما زالوا يزيفون الحقائق ويزوّرون عناوين الأفعال ويعقدون الصفقات الفاسدة المريبة ويخلقون الجماعات التي يسمونها إرهابية لتصبح لهم مسمار جحا، الذي سيسمح لهم بل وأحياناً يستجديهم للدخول حيث لا يجب أن يدخلوا، وللتدخل حيث لا يجب أن يتدخلوا، وليعيثوا في الأرض فساداً، تماماً مثلما فعلوا ويفعلون مع كل ظهور عسكري أو سياسي لهم في أي مكان وزمان.
تباً لكم ولسياستكم التي خفضت السقف وجعلتنا نختار بين السيئ والأسوأ. قبحاً لآلتكم الإعلامية الفاسدة وعتادكم العسكري المتوحش ودولاراتكم الملوثة بالدماء. كل حكومة في العالم على أياديها بقع دماء، هذا قدر البشرية بنظامها «الحضاري الحكومي» الذي تعتقد أنها به «جابت التايهة» على رأي إخوتنا المصريين، في حين أنها كلها لا تزال تخطو وتتعثر في عالم التحضر والمدنية والإنسانية. والحكومة الإيرانية ليست بمعزل، فهذه حكومة دينية فاشية، قمعت شعبها وأفقرته وهبطت بمقدراته الحياتية، والأفظع والأنكى أنها عذبت وقمعت بل وقتلت نساءه، وهذا ما لا يمكن غفرانه لهذه الحكومة في يوم، ولكن ورغم كل ذلك، ومخاطرة «بإثبات» عنصريتي وانحيازي الفارسي، أقولها واضحة: لا حكومة انغمست يداها بدماء الناس كما الحكومة الأمريكية، التي لا مجال لمقارنة أفعالها بأفعال الحكومة الإيرانية أو غيرها من حكومات العالم اليمينية واليسارية على حد سواء.
ما زال البعض في هذا العالم العربي المريض ينصب إيران العدو الأول، وتلك غاية أماني العدو الصهيوني الذي نفض عن نفسه صفة المعتدي بمحاولاته الاختراقية للدول العربية تطبيعاً وفتحاً للسفارات ومداً لسبل التعاون وللجسور الاقتصادية، عساها تسقط بمن عليها. يدفع العدو الصهيوني بفكرة «الخطر الفارسي» في الوعي العربي بكل ما يمتلك من قوة خبيثة، وهي فكرة في حين أنها لا تخلو من واقعية، كون إيران دولة ثقيلة عسكرياً واستراتيجياً بحكومتها الشمولية الدكتاتورية وبأسلوبها الاستخباراتي وبتمويلاتها المشبوهة، ولكنها ليست ولن تكون في يوم العدو الأول في المنطقة، كما أن خطورتها العسكرية لا تقترب أبداً من تلك المروّج لها في المنطقة، وهو الترويج المرجو منه نقل العين من على الكيان الصهيوني كالخطر العسكري المحدق الأول، إلى الدولة الإيرانية؛ تحقيقاً للأهداف الغربية الصهيونية.
إيران في مكانها، وأمريكا هي التي أحاطتها بالقواعد العسكرية. إيران تساعد غزة، وأمريكا تساعد تسليحاً وتمويلاً وترويجاً إعلامياً في تقتيل أهلها. إيران، خلافاً لكثير من الدول التي يفترض أنها قوية في المنطقة، لم تتنازل لأمريكا ولم تلو ذراعها في معاهدات صداقة وتعاون ولم تدِر ظهرها للقضية الفلسطينية.
تبدو إيران الآن على سوء أوضاعها وأفعالها، «أملة» مرة أخرى على حد قول أخواننا المصريين. ومن لا يعجبه، لديه «الخليج» بأكمله يشرب منه.
عاشت غزة حرة أبية.