ربما الدرس المهم المستوحى من الانتخابات الرئاسة التونسية استكمال قوى الثورة المضادة غلق ملف الربيع العربي في بقعة الارض التي انطلق منها. فبعد اربع سنوات من اوسع حراك عربي في العصر الحديث، سقطت آخر «قلاع» التغيير الثوري الذي اسقط اربعة حكام ديكتاتوريين واعطى الجماهير زخما غير مسبوق وأملا قل نظيره بتحول نحو حكم الشعب بدلا من الاستبداد والديكتاتورية. ومنذ البداية كان واضحا ان اعمدة النظام العربي القديم تعمل بدون كلل لانهاء تجربة التغيير عن طريق الثورة الشعبية، وان هذه القوى تمتلك من الامكانات المالية والعسكرية والامنية ما يجعلها قادرة على تنفيذ خططها برغم بعض التصريحات القليلة الخجولة من جانب الغرب بدعم التحول الديمقراطي.
في 8 نيسان/ابريل 2011، اي بعد شهرين من انطلاق الثورات، نشر كاتب هذا العمود مقالا بصحيفة «القدس العربي» بعنوان: «السعودية تقود الثورة المضادة» مؤكدا تحرك اكبر دولة خليجية ضد ما كان يحدث يومها من حضور شعبي في العديد من الساحات العربية. ربما لم يكن ذلك مستغربا، فانظمة الاستبداد لم يكن امامها الا محاولة افشال المشروع التغييري الذي كان يهدد النظام العربي المؤسس على الحكم الفردي او الحزبي او القبلي، بعيدا عن تطلعات الجماهير وتضحياتها على طريق التغيير المنشود. سقط الشهداء في ساحات الثورة، ابتداء بالشاب التونسي الذي أحرق نفسه مرورا بشهداء تونس ثم مصر وليبيا والبحرين واليمن وسوريا. كانت الشعوب جميعها تتطلع لتحول سياسي يوفر لها حقوقها الطبيعية المشروعة وينهي عقودا من الاستبداد.
يومها تأثر بعض المسؤولين الغربيين بمشهد الجماهير العربية المنتفضة ضد طغاتها، فاطلق تصريحات تدعم التحول، ولكن بدون ان يكون هناك خطة لدعم ذلك التحول او التصدي للثورة المضادة. ولكن ما انجلت الغبرة الا وقد وضعت خطط محكمة للقضاء على الظاهرة الثورية لمنعها من التحول الى اداة للتغير بدلا عن ارادة الحكام او الاعتماد على التدخلات الخارحية لفرض ذلك.
كيف يمكن النظر الى ما جرى من انقلاب على الثورة طوال اعوام اربعة متواصلة؟ من هو العقل المدبر لما جرى؟ وأين كانت كوادر العمل الاسلامي التي تصدرت مشروع التغيير وقدمت الكثير من اجل ذلك؟ قبل الخوض في ذلك تجدر الاشارة الى مصطلحين طالما طرحا لتبرير استهداف المشروع الاسلامي ممثلا بكوادره وحركاته. ويكفي استعراض مصطلحات من نوع «التشدد»، «الاصولية» لاستيعاب مدى وعي الاسلاميين لما يحاك ضدهم وما اذا كانت سياساتهم ومواقفهم في السنوات الاخيرة قد حققت لهم مصلحة تذكر. ثمة ظواهر مزعجة يمكن استحضارها للتعرف على الوسائل التي مارستها قوى الثورة المضادة للقضاء على الحراكات الجماهيرية ومنع التغيير. فقد استخدم مصطلح «التشدد» لوصف من يسعى للتغيير باجندة اسلامية.
وحتى بعد صعود ظاهرة التطرف والارهاب المرتبطين بتنظيمي «القاعدة» و«داعش» فما يزال الاسلاميون الساعون لتغيير جذري في منظومة الحكم العربية يوصفون بـ «التشدد»، خصوصا في الاعلام البريطاني الذي لا ينفصل عن المشروع الاستعماري الذي تمثله «المؤسسة» البريطانية. هذا النعت كان، وما يزال، سلاحا نفسيا يستخدم ضد المطالبين بتغيير الوضع الراهن واستبداله بسلطة الشعب. وقد تأثر العديد من زعماء الحركات الاسلامية من هذا النعت، وسعى لاظهار «المرونة» و«الاعتدال» بالتخلي عن جوهر المشروع الاسلامي المتمثل باقامة منظومة سياسية قائمة على قيم الاسلام واحكامه وتعليماته. كما سعى البعض للتنصل من نعت «الاصولية» وحاول البعض الآخر النأي عن اي مشروع يروج للحكم الاسلامي. فمثلا انتشرت قناعات لدى الكثيرين بان تجربة الاسلاميين في تونس بقيادة فضيلة الشيخ راشد الغنوشي «اكثر عقلانية واعتدالا» من غيرها. وعزا البعض بقاء حركة النهضة بعيدا عن الاستهداف المباشر، لهذه السياسة.
وبعد اسقاط حكم الاخوان في مصر نجحت قوى الثورة المضادة في تشويش الموقف والايحاء بان «تشدد الاخوان» هو الذي اسقطهم وانهم لو انتهجوا سياسة النهضة التونسية لما استهدفوا. المشكلة ان الكثيرين ينظرون للقضايا المعقدة من زاوية ضيقة ويعتقدون ان عاملا واحدا كفيل بالفشل او النجاح. ولكن سرعان ما اسقطت تجربة تونس وكررت تجربة مصر بطريقة اخرى. فقد تدخلت الاموال النفطية للتأثير على مسار الانتخابات التونسية واسقاط الخيار الشعبي الذي اعقب «انتصار الثورة». اليوم اكتملت عودة نظام بن علي ممثلا بالعديد من اعضاء البرلمان الحالي، والرئيس الذي «فاز» في الانتخابات الرئاسية الاخيرة. فالرئيس الباجي قائد السبسي واحد من اقوى اعمدة النظام السابق، فقد كان وزيرا للداخلية في الستينات خلال عهد بورقيبة، وقبل الثورة كان رئيسا للبرلمان.
وليس مستبعدا ان يعاد تأهيل زين العابدين بن علي ويعاد الى تونس، على غرار تبرئة حسني مبارك من كافة التهم التي وجهت له بالقتل والاختلاس. من هذا يتضح ان «اعتدال» النهضة لم يشفع لها عند قوى الثورة المضادة.
ويمكن القول ان الخشية من الاتهام بالتشدد حاصرت قادة الحركات الاسلامية التي انطلقت في سياساتها بهدف استرضاء اعداء التغيير سواء من الغرب ام الانظمة العربية. وهنا تجدر الاشارة الى ان اصحاب المشاريع الذين لم يلتفتوا لما يقوله اعداء التغيير استطاعوا تمرير مشاريعهم. وفي طليعة هؤلاء قادة ايران الذين لم يتوقفوا كثيرا امام الانتقادات والاتهامات الغربية بالتشدد. كما يمكن تصنيف حركات اخرى ضمن محور «التشدد» الذي استعصى المتهمون به على محاولات الاسقاط والتدمير. ويساهم صمود القادة ذوي المشاريع الكبيرة وتحدي اعدائهم في بقائهم، وتجربة فيدل كاستروتؤكد عدم قدرة الدول الكبرى على هزيمة ذوي المبادىء والايديولوجيات الجادة. فقد استطاعت كوبا الصمود اكثر من نصف قرن امام الضغوط والمؤامرات الامريكية. وجاءت المصالحة التاريخية بين واشنطن وهافانا الاسبوع الماضي لتؤكد قدرة القادة التاريخيين على الصمود والبقاء امام القوى الكبرى ذات الاطماع السياسية والاقتصادية والرغبة في الهيمنة الايديولوجية.
الآن بعد غلق ملف اغلب الثورات العربية يمكن القول ان ثلاثة عوامل ساهمت في تهميشها واسقاط اغلبها: الاول ايديولوجيتها التي تهدف لتحرير الاوطان من الاستبداد والاحتلال الاجنبي واستقلال قرارها السياسي. الثاني المشروع الطائفي الذي ساهم في تشطير المجتمع وتشتيت افكار شباب الامة وتعميق حالة العداء المؤسس على الجهل بالآخر. كان الاجدر برموز الحركة الاسلامية رفض المشروع جملة وتفصيلا وعدم التعاطي معه الا بالرفض والنأي عنه والسعي لاستعادة وحدة الامة. الثالث القبول بنصف ثورة، وكان هذا القبول خطأ قاتلا. فقد تأسست خطة قوى الثورة المضادة على استغفال القوى الثورية واقناعها بتغييرات هامشية تطال رأس الدولة وتبقي النظام واجهزته. وهذا ما حدث في تونس ومصر واليمن. في البداية اعطي «الاسلاميون» فرصة المشاركة في العملية السياسية، ولكن سرعان ما تآمرت قوى الثورة المضادة واسقطتهم من الحكم في مصر وتونس. وفي كلا البلدين سعى «الاسلاميون» لتفادي التصادم مع القوى الاخرى بتأجيل تطبيق مشروع الاسلمة، حتى حدثت خلافات في صفوف تلك الحركات بين من يطالب بتطبيق الشرع الاسلامي بصرامة ومن يحاول طمأنة القوى والاتجاهات الاخرى بالتظاهر بـ «الاعتدال». وسعى قادة حركة النهضاة في تونس بشكل خاص للافراط في «الاعتدال» بالتحالف مع العلمانيين وعدم التطرق لمشروع الحكم الاسلامي. ولكن ذلك «الاعتدال» لم يشفع لهم، لان قوى الثورة المضادة ترفض أمرين: التحول الديمقراطي وحكم الاسلاميين. هذه القوى اكثر عداء للاسلام السياسي من حركات السلفية الجهادية بسبب خشيتها من توفر بديل ايديولوجي للنظام الغربي. غير ان اغلب الحركات الاسلامية لم يظهر الحصافة المطلوبة او قوة الموقف السياسي والمبدئي الذي يؤهلها لاقامة منظومة بديلة للنظام السياسي المفروض على العالم الاسلامي.
٭ كاتب وصحفي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي
أهنيك يا دكتور سعيد على هذا التحليل المتوازن
فعلا ان الاسلاميين مغضوب عليهم بأوطاننا وخارجها
لكن بالاظافة للخليج الذي أفسد ثورات مصر وليبيا وتونس
فهناك ايران التي أفسدت ثورات سوريا واليمن والبحرين
ولا حول ولا قوة الا بالله
الحقيقة ان نجاح الثورات العربية بتلك السهولة كان غير منطقي و ابعد من الخيال. الثورات الكبرى في تاريخ البشرية و التي ادت الى تغيير الانظمة كانت دموية الى حد كبير و عانت لمدة طويلة حتى نجح التغيير.
يمكن القول ان ثورات الربيع العربي كانت قرع جرس بداية التغيير. صحيح ان البديل لم يكن جاهزا و لكن الموجود مرفوض.
صحيح ان الانظمة القديمة عادت و لكنها لن تستمر بالثوب القديم. و الارجح انها ستتعلم و ان الشعب قد كسر الحواجز و لا يمكن ان تعود الامور الى سيرتها الاولى
المعذرة السيد الشهابي .. مقالك بدلّ أنك لا تفهم شيئا مما يجري في تونس .. ربّما لا تملك معطيات كافية .. أو أنك فسّرتها بطريقة غير مناسبة لواقع الحال .. سيدي الكريم .. أبشّرك أن الثورة مستمرة ..