اغتراب

حجم الخط
12

ما حجم الاغتراب الذي يعاني منه الكاتب في عالمنا العربي؟ سواء في وطنه أو في منفاه؟ فقلّما نصادف كاتبا لا يسكنه هذا الشعور المؤلم، وهو بين أهله، وأحبته، أو حتى بين الأوساط التي يحبها في أجمل عواصم العالم.
يختلف الشعور بالاغتراب عن شعور المهاجر من أجل لقمة العيش، أو الهارب من أجل حياة كريمة، أو الباحث عن الحب الذي حرم منه في عقر وطنه، فالاغتراب يهمِّش صاحبه، حيث يجتمع الآخرون، ويجعل من لغته لغة غير مفهومة، ومن أفكاره مصدرا للإزعاج قد يهدد حياته، هكذا يجد نفسه مثل الشعرة الواقعة في صحن الطعام، مكانه ليس هناك، لا بين أهله ولا بين ذويه. الأسوأ أن لا شيء يُذيب الفوارق بين ضحية هذا الشعور ومن يعيش بينهم، إذ بقدرة قادر لا تفسير لتلك القطيعة، ما يؤكد له أن مكانه في بلد آخر، وثقافة أخرى، وأناس مختلفين.
في روايته « رأيت رام الله « يقول مريد البرغوثي، إن المنفى ليس واحدا لأنه كان دائما متعددا، وهو إن قصد منافيه الخاصة، فإنه أيضا أشار إلى المنفى الذاتي الذي يعيشه المرء مع نفسه، مهما ابتعد عمّا يزعجه، ويخيفه ويحدُّ من نشاطاته، يلاحقه ذلك الشعور المرّ بالوحدة أينما رحل وحلّ، ثم يزداد شراسة حين تئن روحه شوقا لوطنٍ لفظه مثل جثة، فيصارع التناقض الذي يشطره نصفين، كمريض يعاني الشيزوفرينيا. يحتمي هذا الكاتب المقسوم نصفين بأدبه، يكتب وجع الوطن والمدن التي آوته، يسرد حنينه المصحوب بقرارات اللاعودة، يكتب نصوصا يتشابك فيها الخذلان بالحب، فينكشف انتماؤه الحقيقي في كل كلمة تخطها يده، كما يكتشف كم هو مبعثر في هذا العالم، وهذا أقسى ما يمكن أن يشعر به أي محروم من الاستقرار.
غير ذلك، ألا يُقال إن أوطاننا تلدنا وتأكلنا في آن، فما الحل أمام معضلة أزلية كهذه، بين من يعيش فيها ومن يعيش بعيدا عنها؟
تركنا أوطاننا إلى المنافي البعيدة، بحثا عن الرّزق، والحرية، والأمان، والاحترام والحب، إذ يبدو أن كل هذه الأشياء عصية على التحقيق في بيئاتنا على تنوعها، وهي تقذفنا كما يقذف ولد حجارة لمجرد اللهو، فيما قد يصيب أكثر من شخص بإصابات خطيرة. فهل هذه المنافي سيئة إلى هذا الحد؟
قد يكون الجواب نعم، وهذا استخفاف بما تفعله المنافي باللغات الأم، وقد يكون لا، فتكون التفاصيل على غير العادة صادمة بإيجابياتها. لقد تنوع الهاربون من أوطانهم، ولكنهم في الغالب لم يتخلُّوا عن حمولتهم الثقافية، وحيثما يحطون الرحال تطفو مواهبهم وثقافتهم إلى العيان، وقد اعترفت مدنٌ كثيرا ما احتضنت هؤلاء الهاربين، أو المنفيين، أنها استفادت منهم، بحيث أضافوا لثقافتهم الكثير، وأثروا آدابهم، وشكلوا همزات وصل بين ثقافتين وبلدين. نذكر أيضا أن الاغتراب شعور داخلي ينتاب الشخص لأسباب بعضها مفهوم وآخر غير مفهوم، وقد يكون زمنيا أو مكانيا، على سبيل المثال أولئك الذين كتبوا عن الأندلس، أو القدس أيام صلاح الدين الأيوبي، أو غيرها من بطولات الماضي، التي لا ينتمون إليها، وقد يكون ثقافيا أو لغويا، بتأثير من نصوص أدبية، على سبيل المثال أيضا نذكر جيلا بأكمله تأثر بالأديبة غادة السمان، فاستعار لغتها وعَبّر بها عن نفسه، بل هناك من خاطب بيروت كما خاطبتها السمان، مع أنه لم ير بيروت ولا مرة، والشيء نفسه للمتأثرين باللغة الإنكليزية فيتحدثون ويكتبون بها في عقر أوطانهم العربية.

الاغتراب شعور داخلي ينتاب الشخص لأسباب بعضها مفهوم وآخر غير مفهوم، وقد يكون زمنيا أو مكانيا، على سبيل المثال أولئك الذين كتبوا عن الأندلس، أو القدس أيام صلاح الدين الأيوبي، أو غيرها من بطولات الماضي، التي لا ينتمون إليها.

يحدث الاغتراب أيضا عقائديا، كمن يشعر أن عقيدته خاطئة إلا إذا ارتدى زي بلاد أخرى ترمز لمعتقده الجديد، أو الخروج من المعتقد السائد والتمرّد عليه ورفضه، رغم احتضان تلك البيئة التي يرفضها له منذ ولادته. لا تفسير شاف لمنبت الاغتراب الفكري والنفسي، لكُتاب عاشوا ازدواجية صعبة مع أنفسهم، فقد يكون الشخص فعلا ولد في غير زمانه أو مكانه، وقد يرغم على وضع معين، فيعيش معطوبا مسلوخ الحقوق منشطرا بين بلدان تستقبله، وأخرى تحضنه لكنها لا تعوض الوطن المفقود، محمود درويش نموذج، هو الذي وصف نفسه بـ«لاجئ فلسطيني في فلسطين»، واعتبره العرب شاعر فلسطين الأول، وحامل قضيتها، بينما وجد فيه نقاد الغرب تشابها كبيرا مع الشاعر اليهودي يهودا عميحاي، الذي كتب كثيرا عن القضايا المشتركة بين شعبه والشعب الفلسطيني، ورغم مشاركته في حربين، إلا أنه عجز عن وصفها، فقال «لا أجد ما أقول، لا إضافات عندي سوى أنني أشعر بالعار»، هاربا من ألمانيا إلى القدس، بحثا عن الوطن الموعود، فإذا به يعيش هول الحرب الإسرائيلية على فلسطين، بكميات وافرة من الآلام التي سببّتها للطرفين، فتغيرت نظرته مئة وثمانين درجة نحو «وطنه» الأصل فقال: «الموتى كُثْر، والأرض لا تتسع لدفنهم جميعا».
عميحاي بعد تجربة الإقامة في فلسطين تفاقم شعوره بالاغتراب، حتى انفصل عن اللغة العبرية تماما، وتوقف عن الكتابة بها، متأثرا به سيكتب أنطون شماس مُعرِّفا بنفسه على أنه «رجل مقطوع اللسان». وفي مدخل روايته الأولى سيستعير جملة لعميحاي «كل شيء مكتوب بثلاث لغات، العبرية والعربية والموت».
نفسها المشكلة التي تربط ألسنة شعراء وكتاب بلغة غير لغتهم الأم، مثل كثير من كتاب وشعراء المغرب العربي، حتى أن بعضهم كتب باللغتين لكسر الحاجز الذي يفصلهم عن قرائهم، أو لتحطيم ذلك الشعور بالنقص أمام الكتاب الفرنكفونيين الذين يحظون باهتمام من الغرب، إضافة إلى تتويجهم بجوائز لا يرى منها المعربون إلا الوزر القليل.
والحقيقة أن الاغتراب اللغوي يجعل الواحد منا يشعر بالعزلة، والضياع، والشتات، وكل أنواع التشظي التي لا تخطر على بال. كما أن جهل لغة الآخر سبب رئيسي لممارسة العنف ضده، فما تحمله اللغات من أسرار لا يمكننا تخيله، ولكن يكفي أن نعرف أن إتقان لغة إضافية يفتح الباب واسعا أمام سبل التعامل الحضاري بين الأفراد، وخلق شبكة تواصل تخفف من ذلك الشعور المقيت بالاغتراب والخوف من الآخر. وإن كنت تحدثت في مقال سابق عن محمولات اللغة، إلاّ أنني لم أتحدث عن تلاقح اللغات وإنجابها لمصطلحات جديدة، وكأنّها كائن حي، ولم أشر إلى أن حيز الحرية للفرد يتسع كلما أتقن لغة إضافية.
كخلاصة سنفهم أن بعض اغترابنا مفروض علينا، وبعضه من صنع أيدينا، وخياراتنا. لكنه في الغالب حالة تلامس الأعماق، وكلما استسلم لها الإنسان استحوذت على كيانه وحرمته من نعمة الاستمتاع بالحياة…
أخيرا يذكر في ما يذكر أن بودلير كانت له قدرة عجيبة لتغيير مكان إقامته أكثر من أربعين مرة هربا من دائنيه، فعاش غريبا حتى على نفسه التي بادلها الكراهية والتحقير، أمّا أشعاره فهي أفضل مثال عن كل أنواع الاغتراب السالفة الذكر.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمد:

    أدباء السلطة أوالحظيرة الذين يفرضون على القراء والمتلقين بدعم دعائي ضخم لا يعيشون الاغتراب، لأن الذي يعنيهم هو امتلاء جيوبهم بالخير!

  2. يقول الكاتب الأديب جمال بركات:

    أحبائي
    الشاعرة المتألقة بروين حبيب
    كل المبدعين الحقيقيين هم أسرى الإغتراب
    المبدع الحقيقي يحمل في قلبه مايعانيه البشر من صنوف العذاب
    أما المبدع المزيف فيحفظ بضع مقولات وكتاباته تصدر كنعيق الغراب
    أحبائي
    دعوة محبة
    أدعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه….واحترام بعضنا البعض
    ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
    جمال بركات…. رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة

    1. يقول كرستين جريس:

      أستاذنا الأديب العربي الكبير الرمز جمال بركات
      هل هذا الإغتراب الذي تتحدث عنه الشاعرة المحبوبة بروين حبيب والذي وصفته بقلمك الذهبي هل سببها المجتمعات الخانقة والسلطة أم العصابات الثقافية التي كثيرا ماتحدثت عنها؟؟؟

    2. يقول دناهد نعيم:

      أستاذنا الكاتب الكبير المعلم جمال بركات…..ليس غريبا ان يعيش الكاتب هذه الغربة التي تتحدث عنها المبدعة الجميلة المتميزة بروين حبيب….فالمواطن العادي الآن يعيش هذه الغربة فما بالك بالمواطن المبدع والأديب….نحن في زمن صعب لكن الكارثة التي كثيرا ماكتبت أنت عنها هي ماسميتها بالعصابات الثقافية والتي وصلت في كتاباتك الى الإشارة الدالة على بعضها بل وصل بك الأمر الى تسمية زعيم من أكبر زعمائها والذي رغم كل موبقاته التي تعرفها الأجهزة و الدولة تولى الوزارة ….هي الكارثة الحقة

    3. يقول العنود بنت الشيخ:

      منذ فترة كبيرة وأنا أتابع بإعجاب المبدعة الجميلة الرائعة بروين حبيب
      ومنذ وعيت على عالم الأدب وأنا منبهرة بكل مايكتبه أستاذنا الأديب العربي الكطبير جمال بركات
      حفظ الله مبدعينا فهم مصابيح مضيئة لحياتنا

    4. يقول الأديب عبد الغني صالح معوض:

      صديقي واخي الحبيب الكاتب الكبير جمال بركات
      منذ ان قابلتك للمرة الأولى في نادي القصة منذ أكثر من 40 عاما وانا أتابع مسيرتك وطريقتك الجادة والشفافة في تناول الأمور وتقييمك لها كأستاذ كبير ورائد لمن حولك وأوافقك في كل ماقلت نحن غرباء عشنا غرباء وسنموت غرباء وأحيي الشاعرة والإعلامية المتميزة جدا جدا بروين حبيب التي كثيرا ماتابعتها على الورق والشاشة وصفقت لها…..تحياتي وتقديري

  3. يقول الدكتور جمال البدري:

    الاغتراب ( Alienation ) ويسمّى بالاستلاب والضياع وووووهو على أنواع.منها الاغتراب عن الماضي والاغتراب عن الحاضروالاغتراب عن المستقبل.وقد يكون الاغتراب أحاديًا كالاغتراب الثقافيّ أوالاجتماعيّ أويكون شموليًا للأنواع كافة مرّة واحدة.بشكل مبسّط : الاغتراب شعورعمليّ بالدونيّة أمام تحديّ واقعيّ أكبرقائم في النفس.لذلك هونوع من العدوانيّة السلبيّة… أحيانًا يكون خارج الزمن أعلاه في محاولة ليكّون صاحبه بطولة خارج القانون في أحلام اليقظة. بل إنّ فيورباخ الألمانيّ صاحب كتاب : جوهرالمسيحيّة ( القرن 19) يرى أنّ هناك اغترابًا نحو السّماء بعبادة الإله.وهذا من فرط التصورات.لأنّ الإيمان الصحيح لا يمكن أنْ يكون اغترابًا إلا عند أنصاف الملحدين…فتكون الزعزعة السبيل إلى الذات ؛ والإيمان يقين…( يتبع ) :

  4. يقول الدكتور جمال البدري:

    وفي تقديرنا أنّ الاغتراب وليد ( الحضارة المفرطة ) وقلما يكون في النزوع الطبيعيّ…لذلك كمثال نجد الاغتراب الثقافيّ يسود لدى الأدباء الشرقيين الذين عاشوا في الغرب لا بسبب البيئة الجديدة بل بسبب الانبهارالنوعيّ من الحضارة…لتأتي الحروب لتزيد من الاغتراب الجمعيّ… ومن هنا نشأت ما يسمّى محليًا ( عقدة الخواجة ).وهوإحساس الضعف العام أمام كلّ ما هوأجنبيّ غربيّ خاص.وينتج عن هذا الاغتراب الثقافيّ ؛ التقمّص…لهذا نجد كتّاب شرقيون ينشرون مؤلفاتهم بلغات الغربيين لنيل حظوتهم.وكلما زادت عقد الخواجة زاد التقمّص ؛ وهونوع مركّب من الاغتراب مع تدميرالذات لارضاء الآخر؛ لا لارضاء الإبداع ( الوطنيّ )…( يتبع ) :

  5. يقول الدكتور جمال البدري:

    واليوم أرى أنّ هناك اغترابًا جديدًا هو اغتراب العولمة من خلال الإنترنيت.لأنّ هذا ( الجهاز/ البرنامج ) فيه استلاب واضح للهويّة الوطنيّة والقوميّة ؛ على قدراته الخدميّة.ما هوالسبيل لتخفيف الاغتراب؟ والجواب المباشر: أنّ نتعامل مع تاريخنا القوميّ بمنظورالمستقبـل لا الحاضرفقط…والاستعداد للمستقبل كفيل بانتــزاع الاغتراب…لأنه يخلق لدى الجميع التحديّ ضد المستحيل.وإلا سنبقى مثل موتى العصرالجاهليّ ؛ كانوا يربطون ناقة صاحبها الميت عند قبره ؛ ويسمّونها البليّة…لتموت هباءًا ؛ بعد موت صاحبها ضحيّة في البريّة.

  6. يقول المهندس هاشم قاسم / بغداد:

    شكرا لجريدة القدس العربي على هذا التفاعل بين الكتاب والقراء.استمتع بقراءة التعليقات المنوعة.ومنها تعليق الدكتور جمال البدري على موضوع الاغتراب ، رائع وعميق هو ليس تعليقا بل مقالا بحد ذاته.لقد عانيت من الاغتراب اثناء دراستي في أوربا وما يزال لدي هذا الاحساس التغريبي..لذلك عدت لوطني وأهلي لأخفف عن نفسي الكثيرمن المعاناة الثقيلة.مع الاعتذار للاطالة.
    المهندس هاشم قاسم / بغداد

  7. يقول د. عبد النبي اصطيف:

    حبذا لو تحللين الاغتراب في رواية البرغوثي، انطلاقا من استبصاراتك النافذة لحالة الاغتراب. احسنت وافدت، بارك الله بك وبقلمك.

  8. يقول احمد/هولندا:

    لكارل ماركس نظريه عن الاغتراب او الاستلاب وهو يشرح عن اسباب الاغتراب .وهناك الاغتراب الوظيفي.والاغتراب الاجتماعي.والاغتراب النفسي او الشخصي.

إشترك في قائمتنا البريدية