كيف يمكن اغتيال مساحة تشبه الحياة وتشبه الإنسان في اتساعهما؟ وهل يمكن اغتيال الحرية بالخصوص عندما نعرف أن فعل الحرية أوسع من أن تضيق عليه الإرادة البشرية مهما كان سلطانها؟ أن تكون روائياً هذا يعني أن تجعل من الحرية رهاناً إنسانياً جوهرياً. فالحرية هي جهاز تنفس النص الإبداعي، وكل مس بهذا الجهاز، سواء من الرقابة الرسمية أو الرقابة الذاتية، هو قتل للإبداع عموماً، وللرواية بالخصوص.
قادني إلى هذه الأسئلة خبر اغتيال الروائي والناشط العراقي علاء مشذوب، الذي فجائياً وصاعقاً. فجائياً لأننا نفترض دائماً أن آلة الموت المضادة للإنسان والإبداع تنام أو تنسى، ونعلم جيداً أنها لا تنسى ولا تنام. في الوقت نفسه، لا يعلم القتل المنظم الدولة الحامية أي درس، ولا يمنح أجهزة الدولة العربية المبنية على التسيب أي خطة أو تصور استباقي، فحماية المثقف ليست أولوية لها. موت مثقف معناه في لاوعي السلطة العربية نهاية منغص لا تستطيع حياله الكثير، أي أن الفعل يصبح عادياً ومبتذلاً، وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث في النهاية.
لم يكن الروائي علاء مشذوب نكرة، كان شخصية فعالة في المجتمع ونشيطاً مهماً، لهذا لم يكن اغتياله وليد خطأ أو صدفة، ومساره الإبداعي والاجتماعي يشهد له بخاصية الفعالية.
ولد علاء مشذوب في 24 جوان 1968. خريج كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، ونال درجة ماجستير فنون جميلة، ودكتوراه فنون بين عامي 2008-2014. اغتيل في مكان مقدس رمزياً، كربلاء، ليس بعيداً عن منزله في شارع (ميثم التمار). كتب علاء مشذوب الكثير من القصص والروايات. وفي عام 2017، أثارت روايته «حمّام اليهودي» عن دار سطور ببغداد، جدلاً كبيراً في موضوعها ونقاشها للمسألة اليهودية في العراق. تحكي الرواية عن قصة عراقي يهودي سكن كربلاء وخدمها بطريقته لأنها مدينة انتمائه، أحبها وتوغل في نسيجها الاجتماعي والثقافي كمواطن دون أن يتخلى عن يهوديته. ونظراً لدأبه وعمله، تمكن من فتح محل لصياغة الذهب، وبفائضه المالي بنى حمّامًا عامًا في المدينة، لكن الحمّام لم يُكتب له القبول الشعبي في كربلاء، إذ منع على المسلمين ارتياده لأنه نجس بسبب يهودية صاحبه.
كان علاء مضاداً للتزمت الديني في مقالاته، كما كتب الكثير عن رفضه للاحتلال الأمريكي للعراق في جرائد الصباح، والزمان، والمدى، والصباح الجديد، والاتحاد، وغيرها. الاغتيال بهذا المنطق، كان موجهاً ضد طاقة فعالة عربياً وعراقياً. كم من شخص من عالم الفن والموضة (الموديل تارة فارس وصيفة ملكة جمال العراق، وملكة جمال بغداد) اغتيلوا في السنوات الأخيرة في العراق، وفي غيرها من العالم العربي، لدرجة أن أصبح الموت القاسي في النهاية، لا حدث.
كثيراً ما يتم تشبيه هذه الجرائم المقدسة بما كانت ترتكبه محاكم التفتيش المقدس. لا أعتقد أن الأمر صحيح. محاكم التفتيش، على قسوتها، كانت في النهاية محاكم دولة، حتى ولو صورية. الشخص المحكوم عليه بالإعدام كان يعرف قاتله والتهمة. الاغتيالات اليوم تمارس في وضح النهار، لكن بسرية مطلقة، حيث تقيد في أغلب الأوقات ضد مجهول. بينما ما يحدث يسير وفق مخطط مسبق ينتهي بحرمان البلاد العربية من أمرين أساسيين، من مادته الرمادية ومن أمكانية بناء أي مشروع ثقافي ديمقراطي كفيل بأن يغير بنيات التفكير التقليدية نحو بنيات أكثر حيوية ودينامية.
يكفي أن نرى بروفايل المغدورين لندرك أن الأمر لم يكن ثانوياً ولا خاضعاً للصدفة، ولكنه نظام مهيكل بأهداف آنية يقصد من ورائها التخويف، وأهداف استراتيجية تهدف إلى الحفاظ على العالم العربي على وضعه كما هو، في وضعية ستاتيك، من الثبات والتخلف، وهو ما يرضي المؤسسات السياسية والاقتصادية المحلية والعالمية التي جعلت من العالم العربي مساحة للفساد والنهب.
آلة الموت المنظمة تختار بدقة، ثم تنفذ، كما سبق أن فعل الموساد الإسرائيلي في العراق، في أكبر عملية إبادة منظمة غير مسبوقة، وعلى مرأى العالم، التي محت كلياً كل من كانت له علاقة بالبرنامج النووي، حتى في نواته الأولية. استمرت العملية لسنوات كثيرة مست العمال المباشرين في البرنامج النووي، ثم علماء السند الجامعي في مخابر البحث من المشتغلين في التجارب الكيماوية والفيزياء النووية، ليلقى المئات من العلماء العراقيين حتفهم في أكبر عملية تقتيل ثقافية منظمة.
القاتل ليس أعمى، لكن الأعمى هو المؤسسات الأمنية العربية التي لا تعرف كيف تحمي مثقفيها وعلماءها. أسهل جريمة أن تقتل مثقفاً عربياً، وبلاده تفرح للتخلص منه، ثم لا أحد يطالب بدمه أو إجلاء الحقيقة داخل شبكة سيدها الأنظمة الفاسدة وقيمة الإنسان العربي الذي أصبح في العشر سنوات الأخيرة من السلالات الآيلة إلى الزوال.
لا ينطبق قانون الحق العالمي على العربي لأنه لم يرق، في عرفها الباطني، حتى إلى مرتبة الحيوانات التي تحتاج اليوم إلى الحماية. كم من القنابل الحارقة العربية والأمريكية والغربية تنزل على الخرائط العربية وكأنها مجرد ألعاب افتراضية؟ لا صورة ولا احتجاج. حيث لا صورة، لا ضحية حتى ولو كان الضحايا يعدون بالمئات والآلاف. الضمير العالمي، الاستعماري تحديداً، مرتاح، ويجد دائماً رمزه الإعلامي لتسويق إنسانيته. يؤتى بضحية من ضحايا الحرب، يطوفون بها الشاشات العالمية لدرجة أن يبدو القاتل، الغرب الاستعماري الجديد، خارج دائرة الاتهام، وقد يذهب بعيداً في لعبته فيمنح نوبل لإحدى ضحايا العسف العربي، معلناً أنه منشغل بالمصائر البشرية، وننسى فجأة أن هذا العالم الجشع لم يتوان عن قتل الملايين في حربين عالميتين بلا أدنى ضمير.
هل يمكن فصل اغتيال علاء مشذوب وغيره من المغتالين عن كل هذا السديم المتلاطم الذي يطوق العالم العربي كما لم يحدث قط؟ السؤال الكبير، لماذا يُقتل الروائي؟ هل أصبحت الرواية تشكل خطراً على الأمة، البلاد، الدين، الطائفة، العائلة؟ أليس اغتيال الرواية هو الاغتيال الرمزي لأي فعل حر في النهاية؟ أليست الرواية مجتمعاً مصغراً يغير ويتغير، وعرضة أيضاً لكل العواصف؟
أرادوا بقتل المرحوم مشذوب إسكات الصوت والكلمة التي تشير إلى عبثهم وتجاوزاتهم على كل ما هو وطني وتبعيتهم لسلطة الولي الفقيه في. إيران التي تحرك اذرعها المسلحة في العراق لكل من يجرؤ على التعرض لسلوك أهل السلطة في عراق اليوم ولا سيما لتلك الأحزاب القابضة على جمر السلطة في العراق والتي تملك اذرعا مسلحة وتاتمر بأوامر من إيران . المرحوم الشهيد مشذوب ليس أول ضحية إجرام هؤلاء ولن يكون الأخير بالأصوات الناقدة والناقمة ستستمر في حراكها الأدبي والمدني مهما كان الثمن والمثقف الحقيقي الذي لا يتماهى مع مشروع السلطة الفاسدة بالتأكيد سيكون في مواجهة هؤلاء الجبناء الذين بجابهون الكلمة بالرصاص لأنهم ادمنوا على الدم والنهب والتبعية
النظام العسكري الانقلابي في مصر يغتال يوميا عشرات الأبرياء ويلقيهم في الطريق العام بتهمةالإرهاب،ويتحدث عن قتلهم في تبادل مزعوم لإطلاق النار ،ولا يذكرهم أحد!