منذ اغتيال زعيم الحزب الاشتراكي الياباني اينيجيرو آسانوما، في خريف العام 1960، طعناً بالسيف القصير للساموراي، أو «الواكيزاشي»، على يد شاب يميني لم يكن بلغ السن القانونية، وصولاً الى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق شينزو آبي في الساعات الأخيرة بطلق ناري على يد مواطن أربعيني في مدينة نارا، لم يعرف الأرخبيل الياباني هذا النوع من العنف السياسي.
ولا بأس بالالتفات هنا بعض الشيء لمفارقة اجتماع هذين الاسمين.
فمن ناحية، اينيجيرو آسانوما هو الزعيم اليساري الذي استعاد ملابسات اغتياله ابداعياً الأديب الياباني كنزابورو أوي (نوبل 1994). ندّد باستمرار هيمنة أمريكا على بلاده حتى بعد انتهاء فترة احتلالها العسكري لليابان، وكان صديقاً للصين الشعبية التي زارها عام 1959 في وقت كانت لا تزال بلاده رسمياً في حالة حرب معها (وقد بقيت كذلك حتى معاهدة السلام والصداقة في أغسطس 1978 بين البلدين)، وقد أحدث اغتياله فجوة لم يستطع اليسار في اليابان تجاوزها من يومها.
أما شينزو آبي، فمن أبرز أقطاب «الحزب الليبرالي الديمقراطي» المهيمن على الحياة السياسية في اليابان، وهيمنة هذا الحزب تكاد تكون بلا انقطاع منذ نهاية فترة الاحتلال الأمريكي للأرخبيل وإلى يومنا، ما يأكل من رصيد مصطلحي الديمقراطية والليبرالية، رغم أن هناك مؤسسات دستورية جدية وفعالة، وتعددية حزبية وانتخابات تنافسية.
مثّل آبي تحديداً توهّج النزعة القومية المحافظة داخل هذا الحزب، كما نُظر له أيام ولاية دونالد ترامب بالولايات المتحدة، على أنه الصديق الأوثق للأخير، بل أن ترامب خلع على آبي لقب «أعظم رئيس وزراء في تاريخ اليابان».
والحال أن تداول السلطة في اليابان هو ضمن أجنحة الحزب المهيمن، أو بالأحرى بين سلالاته وعائلاته السياسية، أكثر منها بين هذا الحزب المهيمن وأنداده الذين لم يكملوا في السلطة عاما واحداً بين 2006 و2007 وثلاثة أعوام بين 2009 و2012 عاد من بعدها الحكم للحزب المهيمن، وبشكل أكثر تمحوراً حول آبي الذي رأس الحكومة أطول مدة بين 2012 و2020، قبل أن يستقيل بسبب اشتداد مرض التهاب القولون التقرحي الذي يعاني به بشكل مزمن، ومع بقائه أحد أقوى الشخصيات ضمن الحزب، إن لم يكن أقواها على الاطلاق الى يوم اغتياله.
الديمقراطية اليابانية لها متن دستوري صلب، ومؤسسات متقيدة الى حد كبير بما لها وبما عليها دستورياً، وتعرف منافسة حزبية متواصلة في صناديق الاقتراع، لكنها في المقلب الآخر ديمقراطية ذات طابع سلطوي، ومحافظ، وعائلي بامتياز. وأكثر من ثلث أعضاء البرلمان الياباني يرثون مقاعدهم عن آبائهم وأجدادهم، وكانت النسبة تصل قبل عقد من الزمان الى زهاء نصف المقاعد. وثمة نفوذ أساسي للعائلات السياسية المتصاهرة مع عائلات تتربع على أهم الشركات الصناعية. شينزو آبي مثلاً كان والده شينتارو آبي وزير خارجية في الثمانينيات من القرن الماضي، وجده لأبيه نائبا في البرلمان منذ الثلاثينيات، وجده لأمه نوبوسوكه كيشي كان رئيساً للوزراء في الخمسينيات، ومن مؤسسي الحزب المهيمن إياه. أما زوجة المغدور، آكي آبي، فهي ابنة رئيس شركة ذائعة الصيت بصناعة الشوكولاتة والسكاكر، موريناغا، وآكي، رغم تميزها عن زوجها بما يتعلق بدفاعها عن الأقليات الجنسية وعناوين حرياتية أخرى، إلا أنه ليست أقل منه ارتباطا بمجموعات الضغط القومية الهادفة الى إحياء «شينتوية الدولة»، التي تمر حكماً من خلال إعادة اسناد دور ديني للامبراطور، ويتجلى ذلك بقيام المدارس المحسوبة على هذا الخط بإعادة تحفيظ تلامذتها «المرسوم الامبراطوري للتعليم» المتصل بإصلاحات الامبراطور ميجي أواخر القرن التاسع عشر، هذا المرسوم الذي يشدد على طاعة الامبراطور والبر بالوالدين والتفاني من أجل الوطن، وهو مرسوم كان يردده التلامذة والطلبة كل صباح حتى انهزام بلادهم أمام الأمريكيين عام 1945، وحظرت تلاوته رسميا عام 1948، لكن آكي دعمت مثل زوجها اعادة الاعتبار لهذا المرسوم، وبخاصة في مدارس مؤسسة «موريتومو غاكوين» قبل ان تخرج الى العلن فضيحة الصفقة المتمثلة ببيع أرض مملوكة للدولة الى هذه المؤسسة بشكل غير قانوني، الأمر الذي طاول زوجة آبي بالاتهامات.
الديمقراطية اليابانية لها متن دستوري صلب، ومؤسسات متقيدة الى حد كبير بما لها وبما عليها دستورياً، وتعرف منافسة حزبية متواصلة في صناديق الاقتراع، لكنها في المقلب الآخر ديمقراطية ذات طابع سلطوي، ومحافظ، وعائلي بامتياز
لو قارنا، بشكل إرهاصي، التجربة الديمقراطية في اليابان بمثيلتها في الهند بعد الاستقلال عن بريطانيا، لظهرت قلة عمليات الاغتيال السياسي في اليابان وندرتها، بشكل يجعل من اغتيال آبي اليوم صدمة حقيقية.
في المقابل، تجربة الحزب المهيمن في الهند انتقلت من حزب الى آخر. من حزب المؤتمر (خطاب الوطنية الجامعة) في النصف الثاني من القرن العشرين الى حزب بهاراتيا جاناتا القومي الديني في أيامنا، في حين ان هذا الانتقال يحدث الى حد كبير ضمن أروقة الحزب المهيمن نفسه داخل اليابان، الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي عكف شينزو آبي على جعله أكثر تشرباً للنزعة القومية التي تنادي بشينتوية الدولة والقيم المحافظة في بلد ينتمي معظم سكانه الى ديانتين في الوقت نفسه، الشينتو والبوذية، ويختلفون بين من يؤثر هذه على تلك في الطقوس المتصلة بالموت.
وشينتوية الدولة تعني إعادة تكريس دور الامبراطور كرأس الديانة والأمة في وقت واحد، مثلما أن آبي من المنادين بمراجعة المادة التاسعة من الدستور التي أجبرت اليابان بموجبها بعد الحرب على التخلي عن الحق السيادي في شن الحروب، وبالتالي بأن يكون لها جيش وطني بصحيح العبارة، بل ان آبي غمز غير مرة من قناة الدستور القائم في اليابان بعد الحرب ككل، بما أنه فرض على يد محتل.
وهنا فارق آخر بين اليابان والهند. احتلال أمريكي لبضع سنوات فرض على اليابان دستورها الحالي، في حين أنه بعد احتلال بريطاني طويل، أمضت الهند ثلاث سنوات تناقش جمعيتها التأسيسية ما انتهت اليه بالمحصلة من دستور مفصل، لعله من أطول الدساتير في العالم. في المقابل، رغم اختلافهما، بالشكل وبالحدية، يبقى أن النزعة القومية لجماعة «شينتوية الدولة» في اليابان يقارنون بما للقوميين الدينيين في الهند، من أنصار «الهند للهندوس» من مقام، ويرتبطون بمرحلة مشتركة من استفاقة النزعة القومية، ولو بنمطين مختلفين، ولبلدين متفاوتين جدا على صعيد مستويات العيش، فاذا كانت الهند تنص في دستورها نفسه منذ نهاية السبعينيات على أنها دولة اشتراكية، فان اليابان التي تعتمد رسميا اقتصاد السوق هي عملياً أقرب الى شيء من اشتراكية الدولة، وليس فقط رأسمالية الدولة، حيث أن الدولة الاجتماعية الرعائية حافظت على نفسها في اليابان اكثر من بلدان عديدة. في المقابل، الحريات النقابية وبخاصة الاضراب محصورة جدا في اليابان.
يمكن مقارنة قومية شينزو آبي أيضاً بمثيلتها في الصين المجاورة. مع صعود نزعة «قومية الاثنية الغالبة من الهان» ضمن الحزب الشيوعي الحاكم. والحال أن جزءا أساسيا من قومية «شينتويي الدولة» مثل آبي موجه ضد الصين بشكل أو بآخر. وينطلق من تحسس أن اليابان التي كان ينظر لها انها الثانية اقتصادياً بعد الولايات المتحدة في الثمانينيات تحولت الى ما يشبه الهامش في مقابل المتن الصيني المتوثب والجامح. الشعور بأن الصين أخذت مكان اليابان يثير حفيظة اليابانيين بشكل عام. ففي مطلع القرن التاسع عشر، ابتدأت دعوات اليابانيين للنهوض الحضاري والعسكري ببلادهم بالتداعي الى التعلم من الصين، ثم تنبهوا الى كبوة الصين، فمازجوا بين الحفاظ على تراثهم، وبين ما يمكن اقتباسه من الغرب، ضمن تجربة تحديث سلطوي، عبرت عنها إصلاحات الامبراطور ميجي التي أعطت الأولوية لديانة الشينتو على كل من التراثين الكونفوشي والبوذي في التاريخ الياباني. ثم غلبوا الصين نفسها، واستعمروا أجزاء منها، ثم دارت دورة التاريخ، وبعد ان أعيد بناء اليابان بعد الهزيمة والرعب النووي والاحتلال الأمريكي، تحولت الى نموذج اقتصادي يحتذى في آسيا. احتاج الصينيون أيضا للتعلم منها نهاية السبعينيات، ثم عاد الحجم والموقع لإعطاء الحيز الأكبر للصين.
النزعة القومية الميالة الى رد الاعتبار للاحتلال الياباني لمنشوريا وشنغهاي ولدور اليابان في تخليص أندونيسيا، باحتلالها، من الاستعمار الهولندي، عادت الى الواجهة، في بلد لم تنقح فيه المناهج التربوية السلبية جداً تجاه الصين، والشيء نفسه يقابل بالنسبة الى صور اليابانيين في المدارس الصينية.
يأتي اغتيال كينزو آبي ليذكرنا بهذه النزعة القومية اليابانية، وانقسام الموقف منها في الأرخبيل، والتشنج التي تعبر عنه هذه النزعة، من الصين بالدرجة الأولى، ومن روسيا التي تستمر في احتلال شمال الأرخبيل منذ الحرب العالمية الثانية.
وثمة في المقابل التشنج حيال هذه النزعة القومية لانصار «شينتوية الدولة»، وحيال عدم إمكانية ترجمتها بشكل عملي الى مشروع استرجاعي لمكانة اليابان في اقليمها، وعلى المستوى الأسيوي. لكن الواضح حتى الآن أن النزعة القومية لشينتويي الدولة صار لها في اليابان شهيدها، كطاقة رمزية ملتهبة للسنوات القادمة.
كاتب من لبنان
مرة أخرى، يُثير إعجابي أسلوب وزاوية رؤية الأكاديمي (د وسام سعادة) فقد ورد (في بلد لم تنقح فيه المناهج التربوية السلبية جداً تجاه الصين، والشيء نفسه يقابل بالنسبة الى صور اليابانيين في المدارس الصينية.) تحت عنوان (اغتيال شينزو آبي: شهيد «شينتوية الدولة»)، وأحب إضافة بعض ما حصل في مؤتمر G20، في إندونيسيا،
حين ربطت، عملية شراء مواد الطاقة من (روسيا)، رغم كل ما قالته ضدها، في مؤتمر G20،
بأسعار تفضيلية (أي شفاعة ومحسوبية أو (واسطة)) من خلال إتمام الدفع، من خلال (الهند)،
ماذا يعني ذلك، من يضحك على من، أو من أخبث مِن مَن، أو من صعد على أكتاف من، هنا؟!
أي السؤال، أيهم أهم الإقتصاد، أم السياسة، أم العدالة ودولة القانون، في نظام الأمم المتحدة؟!
يا أهلا بأهل تطوير التعليم من الأردن، التي قمعت نقابة المعلمين،
أي السؤال الآن، هل بواسطة الآلة التطوير، أفضل وأكثر إيرادات ؟!
أم، بواسطة مناهج التعليم، أفضل وأكثر إيرادات ؟!
أم، بواسطة مناهج التعليم، للمعلم والمسؤول عليه، قبل (الطالب)، أفضل وأكثر إيرادات ؟!
والإيرادات الأفضل، لمن، وكيف يمكن تحقيق ذلك؟!
للدولة، أم الإنسان، والأسرة والشركة المنتجة للمنتجات الإنسانية، أو لأحدهما أم كليهما، أم الإيرادات الأفضل إلى الجميع؟!
هنا ميزة سوق صالح (الحلال)، عن ميزة سوق الجباية الربوية (الحرام)، على أرض الواقع في عام 2022، لمن يبحث عن حلول.??
??????
مقال رائع
استعراض مهم و رائع للحياة السياسية في اليابان جعلنا نطلع على أرض مجهولة تماماً للكثير.
كل الامتنان للأستاذ د. وسام.