مما لا شك فيه أن العلاقة بين أمريكا والعراق، علاقة ملتبسة تفتقر إلى الوضوح في الرؤية والسلوك. أمريكا التي لها في العراق سفارة هي من أكبر سفاراتها في العالم، وقد استغرق بناؤها عدة سنوات بعد الاحتلال، وتقع في قلب المنطقة الخضراء، لم تعمل وربما لن تعمل مستقبلا على بناء علاقة تكافؤ بينها وبين العراق، بل تريد أن تكون علاقة العراق، أرضا وشعبا معها، بشكل يختلف كليا عن العلاقات المتكافئة بين الدول والشعوب في أنحاء العالم.
الولايات المتحدة الأمريكية، في هذا تقع، بل هي واقعة فعلا، في خطأ استراتيجي جسيم وخطير سيكلفها الكثير، فالشعب العراقي، شعب تمتد جذوره وجذور الأمة التي ينتمي إليها عميقا في التاريخ؛ لأكثر من ثمانية آلاف سنة، وهذا الامتداد التاريخي سوف يفعل فعله في هذه اللحظة التاريخية؛ باتجاه ان يكون هذا الشعب حرا في قراراته على كل الصعد، في وطن ذي سيادة كاملة غير منقوصة، لذا؛ فأمريكا هنا تقع في خطأ، بل خطيئة تاريخية وكارثية؛ ستكلفها الكثير من مواردها ومن سمعتها، وسوف يتأكل جرف هيمنتها وسيطرتها على الكثير من مقدرات الدول والشعوب في العالم الثالث، وحتى في دول الاتحاد الأوروبي.
أمريكا سوف تخرج عاجلا أو آجلا من أرض العراق، وهي تجر خلفها أذيال الخيبة والذل والخسران والندم
عندما بدأ الكيان الصهيوني في ارتكاب المذابح والمجازر في حق الشعب الفلسطيني في غزة، على مرأى ومسمع كل العالم المتحضر، من دون أن يحرك هذا العالم ساكنا، بإجبار هذا الكيان على التوقف عن مواصلته لهذه المذبحة، الأمرّ والأدهى أن كل أنظمة الدول العربية وغير العربية، والدول الكبرى والعظمى؛ ساعدوا من حيث يدرون، أو لا يدرون ـ مع استبعاد ذلك كليا ـ في البحث عن حلول لهذه الحرب كما يسمونها بخلاف واقعتها وحقيقتها؛ فهي مجازر من جانب واحد يمتلك كل عوامل الدمار والخراب والقوة والفتك بالبشر والحرث والضرع، وليست حربا بين قوتين متكافئتين؛ في منحه الفرصة في الزمن، وفي استخدام كل أنواع الدمار من الأسلحة الأمريكية الصنع في أغلبها؛ في تسوية المدن والقرى في غزة بالأرض وتشريد أكثر من مليوني إنسان ودفعهم إلى العراء في أجواء البرد والمطر القاسية. عدم التحرك هذا، سواء أكان دوليا أو إقليميا أو عربيا؛ يقع في زاوية الاتهام، لجهة مساعدة وعون الكيان الصهيوني المجرم، لا مساعدة وعون الشعب الفلسطيني الذي يتعرض إلى أبشع مذبحة عرفها تاريخ المذابح التي تقوم بها قوى الطغيان والعدوان على مرّ التاريخ في العالم، بل هي الأبشع من كل هذه المذابح. في ظل هذا المشهد الإجرامي، في المنطقة العربية، وفي جوارها الإسلامي؛ لم يتمكن أصحاب الغيرة والضمير الحي، فوضعوا الأيادي على الزناد لنصرة الشعب الفلسطيني في غزة، في مقدمة هؤلاء كان شعب العراق العربي المسلم؛ فأمطرت فصائل منه؛ قواعد أمريكا في العراق وسوريا، المشاركة مع هذا الكيان المسخ في محارقه على الشعب الفلسطيني في غزة؛ بوابل من المسيرات والصواريخ؛ دعما لنضال الفلسطينيين، ولإجبار أمريكا على الانسحاب كليا من أرض العراق، أرض الحضارات والتاريخ، الذي لم يسكت يوما في كل تاريخه على مصادرة حريته وسيادتها على أرضه. إن أغلب الهجومات التي نفذتها فصائل مقاومة المحتل الأمريكي على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، وفي حيفا وغير حيفا على أرض فلسطين المحتلة، لذا هددت أمريكا هذه المقاومة بالرد، وقد نفذت تهديدها في سوريا وفي العراق، في عكاشات وفي القائم، وأخيرا، في ليلة الثامن من شباط/ فبراير؛ قصفت بالمسيرة، في قلب بغداد العاصمة، في حي أور والمشتل، أو في المنطقة بين المشتل والبلديات؛ وبصواريخ «هيل فاير»؛ ليستشهد فيها؛ أبو باقر الساعدي وأركان العلياوي. هذه الهجومات الأمريكية جاءت لمساعدة الكيان الصهيوني على الاستمرار في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني في غزة، أولا وأخيرا، لجعل المجرم الصهيوني ينفرد في تدمير غزة وشعبها الغزاوي.
إن من المفارقات وسخريات السياسة الدولية التي تعمل بها وعلى قواعدها ومعاييرها الولايات المتحدة الامريكية، وليس كل السياسة الدولية، فهذه لها موضوع آخر، لا يمت بأي صلة للسياسة الدولية الأمريكية؛ إن قولهم وهم يبررون أفعالهم هذه، وايضا جرائم إسرائيل، بأنها للدفاع عن النفس، أي دفاع عن النفس وأمريكا قامت قبل أكثر من عقدين بغزو واحتلال العراق، والآن تريد من العراقيين أن يقبلوا بها كدولة احتلال، وأن لا يهاجموا قواعدها على أرضهم، وإن هذه الهجومات هي اعتداء عليهم وعلى جنودهم وضباطهم؛ يستوجب منها الرد دفاعا عن النفس. إنها حقا سخرية الأقدار وظلم العالم الذي يدعي أنه، أو يصف نفسه؛ بأنه عالم الحرية والعالم الحر، هذا أولا، وثانيا؛ أن العراقيين لم يهاجموا قواعد أمريكا وجنودها وضباطها على أرض أمريكا، بل هاجموهم في قواعدهم الموجودة على أرض العراق، وطنهم الذي يريدون ويناضلون على طريق إخلاء هذه القواعد من الأمريكيين العسكريين؛ لحفظ سيادة العراق وقراره المستقل سياسيا واقتصاديا. عليه؛ فإن هذه الهجومات هي شرعية وقانونية، حسب القانون الدولي.
في النهاية وفي رأيي أن أمريكا ستخرج عاجلا أو آجلا من أرض العراق، وهي تجر خلفها أذيال الخيبة والذل والخسران والندم. تحية حب وتقدير فائق واحترام لكل من يكافح ويضحي بنفسه وحياته ومستقبله وشبابه على طريق حرية العراق شعبا وأرضا وحاضرا ومستقبلا.
كاتب عراقي