بالإجماع؟! فلم يشذ عن الحكومة الإسرائيلية «بربطة المعلم»، وزير واحدا، لا ليرفض قرار إغلاق مكتب الجزيرة، وإنما يتحفظ عليه، ولو من باب الحفاظ على سمعة الكيان، التي نجحت الدعاية في تكريسها، من أنه بقعة ديمقراطية وسط غابة من الاستبداد والطغيان؟!
بالإجماع قررت الحكومة الإسرائيلية إغلاق مكتب «الجزيرة»، في مرحلة سقطت فيها كثير من الأساطير التي دعمتها الدعاية على مدى سنوات طويلة، لتسقط أسطورة واحة الحرية، كما سقطت أساطير أخرى عن الجيش الذي لا يقهر، وغير ذلك!
مداهمة قوات الأمن الإسرائيلية لمكتب «الجزيرة»، ذكرني بمشهد شبيه به، مع البيان الأول للانقلاب العسكري في مصر، هكذا فعلت قوات الأمن المصرية، ولم يكن مكتب الجزيرة استثناء، فقد قامت بغزوة لمدينة الإنتاج الإعلامي، واقتحمت قنوات تلفزيونية بعينها، واعتقلت العاملين فيها والضيوف، وإن تميز أداء الأمن الإسرائيلي بعدم اعتقال من تصادف وجودهم في المكتب، فقد انفرد بمصادرة المعدات، وبدا مشهد عناصر الشرطة وهم يحملونها كلصوص قاموا بالسطو على عقار مملوك للغير، وهو مشهد لم نره في الحالة المصرية!
ففي مصر عشية الانقلاب العسكري، كان ما يهم القوم هو اغلاق مكتب الجزيرة، و«الجزيرة» مباشر مصر، وكذلك قطع الإرسال، وإغلاق القنوات التي يحتمل أن تكون معادية للانقلاب، والأمر لم يكن يحتاج لجحافل الأمن، فالجهات الحكومية تملك إشارة البث عبر القمر المصري (نايل سات)، لكنها الرعونة في التنفيذ، والتي تستهدف في جانب منها تحقيق الصدمة والرعب، وإن كان الأمن غشيماً بطبعه، فقد أدهش القوات كيف أنهم بعد مداهمة المكتب، وتثبيت العاملين فيه: مكانك ولا حركة، وإنزال الضيوف من الهواء، أن الشاشة لم تسود، فصاح كبيرهم في العاملين: ما هذا، كيف يستمر البث؟!
الأمر لم يكن في الحالتين يحتاج إلى هذه المداهمة، فلو طلبوا من مديري المكتب في البلدين اغلاقه والانصراف فسوف يفعلان بدون مقاومة، لكنه الاستبداد عندما يحكم، ولا فرق بين هذا وذاك، فهذا هو ذاك، ونتنياهو وأفراد حكومته يعيشون الأزمة، فتصرفوا على طبيعتهم وقد نسفوا بأنفسهم الدعاية عن الديمقراطية الإسرائيلية، فها هي قناة تلفزيونية تربكهم، فيتصرفون على هذا النحو من الرعونة!
المكان كله محاصر
ماذا فعلت قناة الجزيرة ليفقد القوم أعصابهم، ويكون قراراهم بالإجماع بإغلاق مكتبها، ولم تنقل خبراً كاذباً، أو تنسب إليها مخالفة لمعايير العمل الصحافي، وهي تنقل كل ما هو على الأرض؟
عندما اجتاحت قوات الأمن في مصر مكتب قناة الجزيرة، كان النقل على الهواء مباشرة من ميدان التحرير، حيث أنصار الانقلاب العسكري، وكان ثلاثة من الموالين للانقلاب يتحدثون على الهواء هم حسن نافعة، وعبد الخالق فاروق، وآخر، فالرأي الآخر لم يكن ممثلاً لا بالصورة ولا بالقول، ومع ذلك تمت المداهمة، وإثارة الرعب، والهتاف: «سلم نفسك»، المكان كله محاصر، وكأنهم يلقون القبض على خُط الصعيد!
وفي الحالة الإسرائيلية فإن المكتب المغلق لم يكن هو المشكلة، لأنه ليس مسؤولا عن تغطية العدوان على الأرض في غزة، وما يقوم به المراسلون في المكتب المغلق بالإجماع، هو نقل ما يدور داخل الحكومة الإسرائيلية، والرأي العام الإسرائيلي، والحراك الذي يقوم به أهالي الأسرى ضد رئيس الحكومة، ولا يمكن القول إن القناة الناطقة باللغة العربية تؤثر على إرادة الناخب الإسرائيلي أصلا! بيد أنها الحكومة المختلة والرغبة في الانتقام من مجرد نقل الحقيقة في غزة، وهذه الإبادة الجماعية التي لم تميز بين المقاومة والشعب، والمسلحين والأطباء، ومقار حماس والمستشفيات، في حين أن الطرف الآخر يعطي دروساً في الثبات والإنسانية، وبشهادة الأسرى المحررين أنفسهم!
«ياما دقت على الرأس طبول»، فتاريخياً ثبت أن هذه الاستهداف لقناة الجزيرة وفي كل المعارك السابقة، لم يدفعها للتراجع عن رسالتها في نقل الحقيقة!
لقد اغتال القوم شيرين أبو عاقلة، فهل حال هذا دون تغطية الجزيرة لأحداث غزة؟!
«نبراس»: المجد للإعلام الجاد
في وقت تحول فيه برنامج «الصندوق الأسود» من الجدية إلى الإثارة، ولدت عشرات المشروعات الإعلامية الجادة التي تعد تطويراً مهماً في «البودكاست»!
وما يحسب للرصانة أن البرنامج المذكور كان وقت الجدية من خلال الإنتاج الثقيل مشفراً، لكن عندما ذهب للإثارة عرض خدمته على قارعة الطريق، بعد أن هبط مستوى الضيوف، ومستوى الموضوعات المثارة!
وجاءت «نبراس» على قدر لتقدم محتوى جاداً، وتعيد للمشاهدين بعض الشخصيات التي حجبت على الشاشة الصغيرة، فتجد قبولاً على الشاشة الأصغر، مثل فهمي هويدي، وسليم العوا، والأخير وإن كان له برنامج يحقق في كتب التراث عبر «يوتيوب» وشاهدت له بعض الحلقات في تحقيق كتاب «مقدمة ابن خلدون»، إلا أنه منع من التعليق على الأحداث، وقامت «نبراس» باستضافته معلقاً على «طوفان الأقصى»، الأمر نفسه حدث مع هويدي، وسوف تكون «نبراس» قد قامت بعمل مهم إذا سجلت معه مذكراته الصحافية، لتقديمها للناس، للحفاظ على مهنة توشك أن تنقرض وتصبح مثل مهنة «اصلاح بابور الغاز»، ومنها أُخذ القول الدارج «الدنيا فونيا والزمن كباس». وهويدي لم يكن قد منع من الشاشة الصغيرة فقط، لكن من الكتابة أيضاً، حيث مكانه الأثير، وإن عاد للشاشة (الجزيرة مباشر)، وللكتابة (الجزيرة نت) فبعد لقاء (نبراس)، وكذلك الحال بالنسبة للعوا!
وقد استضافت «نبراس» عدداً آخر من الكتاب والمفكرين، وبجانب المقابلات فقد اهتمت بالوثائقي عند معالجة بعض القضايا، وهي جزء من مجموعة إعلامية تجمع بينها وبين وسائل الإعلام الأخرى!
«المؤثرون» هذا المصطلح المضلل
لعل هذا الدخول للمؤسسات الإعلامية على خط الإعلام الإلكتروني، يرشد من هيمنة غير المهنيين عليه، من خلال هذه العشوائية، والتي شوهت الشكل الإعلامي العام، وإن كانت بعض هذه المنصات، وبحثاً عن النجاح السريع تستعين بهؤلاء، ليأتوا اليها بجمهورهم، ليكونوا كمن تزوج امرأة بأولادها، أخذاً بالأحوط، وحتى لا يحمل نفسه جهداً مضاعفا في الانتظار والتربية، مع الخلاف بين طبيعة من يسمونهم المؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي، والمقابلة الصحافية من حيث كونها فرعا من مهنة، يراد لها أن تستمر مهنة من لا مهنة له!
و«المؤثرون» مصطلح مضلل، وهذا الحضور الكبير على المنصات، لا يعني التأثير، وهذه الجماهيرية العريضة والمتوارثة لأفلام إسماعيل ياسين، لا تجعله من «المؤثرين»، إلا إذا تقرر أن تكون المزاحمة على الخفة، وليس بالعمل الرصين الذي له أدوات مختلفة، وماذا يعني أن تكون شعبية امرأة تعيش في احدى القرى وتقدم محتوىً صامتاً، وهي ترتدي ملابسها البسيطة، وتجهز طعامها البسيط، وتتحرك داخل بيتها وخارجه في الحقل صامتة بدون كلام، فتحقق أعلى مشاهدة؟!
هل كانت الفكرة غائبة عن القائمين على الإعلام التقليدي؟ فلماذا لم يقم التلفزيون المصري بتكليف محمود الخطيب مثلاً بإجراء مقابلات استغلالاً لشهرته في الملاعب؟ وماذا لو تم تكليف أبو تريكة ومحمد صلاح بدور كهذا الآن، أو طلب منهم موقع أو صحيفة تدبيج مقالات له؟!
في بداية التسعينيات أصدرنا صحيفة واستعانت ببعض الفنانات للكتابة، فكان عدد المرتجع منها أكثر من عدد المطبوع، واستعان يوسف شاهين بإبراهيم عيسى وحمدين صباحي للقيام ببعض الأدوار بأفلامه، فلم يساهما في نجاح الفيلمين.. فقد فشلا بالطبع!
النجومية في حيزها الجغرافي، فإن تعدته فقدت وهجها، ونجاح المرء خارج حيزه عمره قصير، وأقرب ما يكون لمصطلح «الأمريكاني» في التصوير، فتمسى لقطة أمريكاني، أي أحدثت عند التقاطها صوتاً، وأطلقت ضوءا، دون أن تكون تصويراً حقيقياً. النجاح بالتراكم، وهو ما نتمناه لـ «نبراس».
صحافي من مصر