مقولة التشابك العالمي مجرد سردية فاقدة للأثر في الواقع. والمفاهيم الأخلاقية للمجتمع الدولي، سرعان ما تختفي حين يتعلق الأمر بالدول النامية والفقيرة، التي يتم سحقها من قبل قوى الهيمنة والاستعباد والسيطرة. والجميع يراقب غياب التضامن الدولي في أروقة المؤسسات الأممية، خاصة مجلس الأمن، بما يفضح خلل مثل هذه الهياكل، التي اتفق المنتشون بالانتصار في الحرب العالمية على وضعها وفق قواعد هشة جعلتها فاقدة للاستقلالية، وعاجزة أمام أشد الأزمات خطورة على البشرية. ومن الطبيعي أن تكون المآلات مخيبة لآمال الشعوب التي تنشد عالما يسوده السلم والاستقرار، وليس الحروب والجوع وتزايد أعداد المشردين وطالبي اللجوء.
منطق الغاب ما زال بالنسبة لغالبية البشر واقعا يوميا، قائما أو قابلا للتجسد في أي لحظة، منذ أن ارتسمت على عتبة القرن الحادي والعشرين مظاهر الرعب الذي يهدد اهتمامات الحياة العامة في العالم بأسره، بما يؤكد أنه ليس باستطاعة مأسسة عملية التفاهم العالمي الحالية أن تُعمم المصالح المشتركة. والأمور تزداد تعقيدا في ظل التسلح المنفلت، وانتشار الأسلحة النووية، والتهديد باستعمالها، وهي مسارات دفع باتجاهها دعاة الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، التي عملت فيها الأسواق الحرة على تمزيق المجتمعات وإضعاف الدول، بشكل دمّر الترابط الاجتماعي على يد المضاربين وقوى السوق الخارجة عن السيطرة.
وفي الأثناء، الصيغة المرغوبة في النظام السياسي، التي تؤكد على مفهوم المساواة والمواطنة، وحق الشعوب في هوية سياسية مستقلة، لم يُقبل بها. وحدث التشخيص النمطي المقولب والمهين في العلاقة بالآخر، وتنامت العنصرية وأشكال العداء للأجنبي، بشكل يجعلنا نعيش في عصر تعمل فيه السوق الفوضوية والموارد الطبيعية المتناقصة على الزج بالدول ذات السيادة في تنافسات تزداد خطورة في كل حين. والأمر بيّن بمجرد النظر إلى الصراع الذي يدور بين أمريكا وأتباعها من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. وما يحدث الآن على ساحة الأسواق النقدية والمالية، وحرب العملات والتصعيد المتبادل، من المرجح أن تتفاقم آثاره السلبية على الاقتصاد العالمي. وهو النتيجة الطبيعية لأيديولوجية الرأسمالية ومنطق الليبرالية، وما نتج عنها من سياسات وقوانين شجعتها حكومات الدول الصناعية الكبرى، وأقرتها تحت ما يسمى تحرير الأسواق المالية، تلك العمليات التي سرعان ما أجبر صندوق النقد الدولي مختلف دول العالم على تطبيقها، بإطلاق سعر صرف العملة، وانفتاحها التام على السوق المالية العالمية. وحتى الاتفاقيات التجارية التي تم فرضها على البلدان المستقلة، كانت سلبية في معظمها، ولم تؤد ما كان متوقعا منها، أي تعزيز النظام السياسي وتطعيمه بالأسس الليبرالية، بل أدت تدريجيا إلى إضعافه، ومن ثم إلى انهياره تماما، وكل ذلك على حساب الشعوب وحقها في أن تعيش حياة كريمة.
التعقيد الدولي لا تقابله مع الأسف محددات عربية واضحة، من خلال نظام إقليمي يتفاعل مع النظام العالمي ضمن استراتيجيات مشتركة
الجائحة العالمية كشفت من جديد عجز الدولة الوطنية على التجاوب مع معطى العولمة ورهاناتها، وتحديات السوق والتقنية وتشجيع رأس المال. وما وصلت إليه المجتمعات الإقليمية بفعل تأثير العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية، التي لم تنجح رغم تجاوز عائق المسافات في إرساء الحوار بين الشعوب، بل أدى هذا الوضع إلى تعزيز فكرة الانغلاق على الهوية، وصعود السياسات القومية الخطيرة، على نحو يجعل عالم اليوم بما فيه من تعاظم في علاقات التشابك التجاري والنقدي، ومن تعميق لدرجة تقسيم العمل الدولي، ومن إضعاف للسلطة الاقتصادية للدولة القُطرية، أبعد ما يكون عن فترة الستينيات وأوائل السبعينيات. فجميع مناحي السياسة على الصعيدين المحلي والدولي تدور ضمن إطار اقتصادي رأسمالي هجين ومتداع، ويبدو أن مؤسسات العالَم الجديد آخذة في التشكل على أنقاض مؤسسات الأحادية الآفلة، ولا يتضح في الوقت الحاضر ما إذا كان بالإمكان أن تتحقق الديمقراطية الحقيقية في المستقبل العولمي، مع استمرار وحشيته النيوليبرالية، ومع غياب أي مؤشر لإعادة النظر في شأن الديمقراطية، التي تعاني وضعا حرجا في جميع مجالات نُظم الحكم المعاصرة. وفي ظل ما يسمى، المجتمع الدولي العالمي، الذي يكشف أكثر من أي وقت سابق ما يوصف بالفوضى المعيارية من الحقوق والمسؤوليات اللامتبادلة، فمنذ ما يزيد عن عقدين، ونحن أمام واقع دولي يتحدث لغة مخاتلة، ويشرّع انسحاب الدولة الوطنية بشكل متزايد من المناحي الاقتصادية والاجتماعية، التي أمست خاضعة لروابط عالمية وسوق مفتوحة، وفرت الهياكل المستقلة عند الحدود الوطنية، وأذابت سيادة الدولة في قوى السوق الذاتية، وما تنهض به المنظمات غير الحكومية من نشاطات سياسية وغير سياسية. وبالمحصلة، خسرت الدول قوتها بالتدريج لصالح منظمات دولية تخدم أجندات الدول الكبرى الراغبة في الهيمنة على الصعيد العالمي.. وبعبورها الحدود، عملت الاستشارات الاستراتيجية الكونية المختلفة، الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية والاتصالية، التي يسميها عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ، بنتاغون الإمبريالية، أو النجمة المُخمسة للاحتكارات عابرة القومية، على تمزيق أوصال البنيان السياسي والاجتماعي للدول القومية وتفتيت تماسكها.
هل يمكن مع ذلك إنقاذ العالم من هذا النموذج الليبرالي المتهافت؟ الكثير من الرؤى النقدية أبصرت مفارقات هذه الأيديولوجية ومكامن نقصها على صعوبة التخلص من هذا المسار المتوحش، الذي أضعف الدولة الوطنية وألّه السوق، وسعر الإنسان بالدولار. وأفضى إلى تشييئه في سُلم السلع والمادة الاستعمالية ضمن سياق النزعة الفردانية مطلقة المنفعة المادية في الفكر والذوق والسلوك. لا شيء أبديّ مهما تطورت القوة التقنية والعسكرية أو الاقتصاد الرأسمالي، فمشاريع الهيمنة ارتدادية في أغلبها، وبروز قوى جديدة تسعى إلى تعديل بوصلة النظام العالمي وتوزيع القوة الاستراتيجية، يؤكد أن القدرة على اكتساب التفوق التكنولوجي والمالي هي خلاصة مرتكزات المعادلة القومية للدولة التي تستطيع إعادة تشكيل دينامية السياسة الدولية، باعتبار تلك المعايير هي قاطرة التغيير في السياسة العالمية وعلى جميع الأصعدة. ومثل هذا التعقيد الدولي لا يقابله مع الأسف محددات عربية واضحة، من خلال نظام إقليمي يتفاعل مع النظام العالمي ضمن استراتيجيات مشتركة. وفي النهاية اختلال النظام الدولي يُفضي إلى التعسف والديكتاتورية والحروب الدائمة، بما تعنيه من أزمات مالية واقتصادية. والإمكانية الوحيدة أمام قادة العالم، وخاصة المولعين بالحروب والتنافس الجيوستراتيجي المربك للسلام، هي أن يكون هناك تقدم حاسم نحو تكوين مجتمع عالمي يتمفصل على مسافة واقعة بين الحفاظ على بيئة نظيفة ومناخ غير مهدد، واتحاد دولي متلاحم يخضع للاحترام المتبادل.
كاتب تونسي
اكدت نظرية السلام الديمقراطي أن القيم الليبرالية و الهيمنة الراسمالية القائمة على اقتصاد السوق الحر و حرية المبادرة الاستثمارية و التجارية و كذا الديمقراطية المشاركاتية خير للعالم لأن هيمنة تلك القيم على المستوى العالمي سيؤدي الى سلام دائم بلغة ايمانويل كانظ . و لكن هذه المعايير التاسيسة الجديدة لم تولد سوى تفتت سيادة الدول و تفكك القيم التي اسستها القواعد الامرة للقانون الدولي مثل مبدا عدم التدخل الذي لم يعد الا حبر على ورق الامر الذي ادى الى انهيار السلطة داخل الدول الفاشلة او السائرة نحو الفشل ، لقد تبين أن عالم الليبرالية الجديدة لم يكن يكن كاملا بسبب المصالح المادية للدول الاقوى في النظام الدولي ، الامر الذي يدفع الى البحث عن مفاهيم تكون اقرب إلى الواقع منه الى التجريد ، مفاهيم تكون قادرة على أن تتحول الى سياسات و ممارسات لتغيير الواقع الملموس بالعمل السياسي الفعال الذي لا يقصي شعوبا او قارات ، عالم جديد تحكمه ديمقراطية حقيقية تخدم الشعوب و ليس ديمقراطية الواجهة ، مع نظام اقتصادي اكثر عادلة و انصاف . الف شكر استاذ العبيدي على المقال المتميز .
منذ الثمانينيات بدأ المناخ السياسي يتّجه عموما نحو تخامد الصراعات الاجتماعية على نطاق العالم، ومع انهيار التجربة السوفيتية ظهر وكأنّ عصر الصراعات الاجتماعية الكبرى قد انتهى، وكتب فوكوياما عن نهاية التاريخ معتبرا أنّ الرأسمالية قد انتصرت للأبد. وكان قد استند هزليّا إلى عبارات ماركس مستعيرا منه مقولة “نهاية التاريخ” وبدأ هو والعديد من أيديولوجي اليمين ينفخون الحياة بأفكار ألكسندر كوجيف الذي حاول ضمن مناخ الحرب الباردة أواسط القرن العشرين أن يقول بأنّ تطوّر الأفكار يسير بمعزل عن حركة التاريخ الواقعي وبأنّ النصر النهائي للفكر الليبرالي والممارسة الديمقراطية كشكل للسلطة الرأسمالية سيحقّق الحسم النهائي وحينها سينتهي التاريخ.
ةل الشكر لك جميلة . دام حضورك