اكتب ثم اكتب ثم اكتب

حجم الخط
0

حدث ذلك اللقاء الجميل، اليتيم والخاطف مثل لحظة قصصية في أحد أصياف أواخر الثمانينات في مقهى «الواحة» في مدينة أصيلة.. هو لقاء نادرا ما تجود به صدف التيه الرائق على جسر الكتابة.
كانت وقتئذ مجموعته القصصية «الماء المالح»٭ حديثة العهد بالصدور، وكانت ما تزال بطراوة شغبها تضج في رأسي بشخوصها وأمكنتها وأسئلتها وحكيها.. لم أتردد لحظة لأبادر بالسلام عليه، ولم يتردد هذا السارد المشاكس.. العابر مزهوا في شوارع القصة للرد على تحيتي بأحسن منها ودعوتي لاحتساء فنجان شاي شمالي يضوع بالنعناع الفواح تحت إفريز مقهى «الواحة» .
هنأته على باكورته القصصية وعبرت له عن إعجابي الكبير وافتتاني البالغ بقصته الموسومة بـ«ما الفلسفة» وسألته سؤالا ساذجا وملغما بالبراءة أيضا: كيف يمكنني أن أكتب قصة قصيرة مشاكسة على غرار «ما الفلسفة» يتآصر في مبناها كل بهارات السرد الممهور بقلق السؤال الفلسفي الأبدي، منذ محاكمة سقراط عبورا بمحنة بن رشد، إلى هموم العقل العربي عند الجابري… وسألته أيضا إن كانت بين يديه وصفة أو سر من أسراره التي ائتمنها عند شهرزاد، أو كيمياء سردية خاصة أحتسي خلطتها، علني بسحرها أكتب قصة قصيرة ذات فرادة وتفرد بمثل ما أبدع به «ما الفلسفة»، فرد عليّ جليسي بتلقائية جامعة مانعة:
يا ولدي «أكتب ثم أكتب ثم أكتب»
وافترقنا على وعد باللقاء في إضمامة قصصية مقبلة.. ومنذ ثلاثة عقود لم ألتق بعدها بالقاص محمد الدغمومي مرة أخرى، لا في البر ولا في البحر، بل فقط على ضفتي الملحق الثقافي لجريدة «العلم» أو «الاتحاد الاشتراكي»، غير أنني في المقابل كنت أستأنس بظله منتصبا فوق رأسي كلما راودتني بلية الكتابة، وهو يردد لازمته على مسمعي، مثل صوت متصوف زاهد في شرفته القصصية «أكتب ثم أكتب ثم أكتب» بنبرة هامسة تحريضية جميلة.
وليس بالشأن الغريب إن كانت القصة القصيرة تتزيى في تجربته بدثار الحكمة مادامت العلاقة الجدلية بين القصة والحكمة قد التأمتا في قصة «ما الفلسفة» التي آثر الكاتب أن يدشن بها عتبة متنه القصصي البكر «الماء المالح»، في إعلان صريح وذي دلالة رامزة وميثاق تعاقدي مع المتلقي، على أن جوهر الكتابة أي كتابة أدبية إبداعية، لا بد أن ينشغل بقلق السؤال الفلسفي والوجودي، مثلما هو المرمى في «الماء المالح» التي كم مرة تمنيت في السر لو وسمها الكاتب بـ»ما الفلسفة» بدلا من عنوانها الأصلي، لكن لا مفر من شباك البحر فللبحر سلطة مائه المالح، وحكي هديره الليلي، وشغب نوارسه وأسرار خلجانه الدفينة، وقصص مغامرات ملاحيه وكل علامات أفقه المضبب الخبيئة في الذاكرة الطفولية البعيدة عند محمد الدغمومي.

ما أثار انتباهي في قراءة هذه القصة العتبة قبل ثلاثة عقود هو بنيتها البلاغية، القائمة على العديد من التعارضات والمتناقضات السوسيوثقافية التي تتمظهر بشكل جلي في كلمتي «فلسفة» و«فلسفا».

لعل ما أثار انتباهي في قراءة هذه القصة العتبة قبل ثلاثة عقود هو بنيتها البلاغية، القائمة على العديد من التعارضات والمتناقضات السوسيوثقافية التي تتمظهر بشكل جلي في كلمتي «فلسفة» و»فلسفا» التي تنتهي تارة بالتاء المربوطة وتارة بألف المد والغاية السردية من ذلك، في ما أزعم، هو رسم حدود طبقية واضحة بين شخصيتي سعيد والسارد، بين شخصية بورجوازية متوسطة تسكن أجمل منزل في الحي وتتفاخر بكونها تعرف معنى ودور «الفلسفة» كفكر وأسلوب حياة باعتبارها قيمة اجتماعية مضافة، يقول السارد «فجاء صوتك مرة أخرى متقطعا: أنت لا تعرف الفلسفة وأنا لا أتحدث مع من يجهل الفلسفة». وبين شخصية الطفل السارد المتحدر من وسط اجتماعي متخلف مازال يجتر أقانيم تعليم تقليدي «هزمتني بكلمة فلسفا، إنها لعبة جديدة.. جديدة ككل الأشياء الغريبة الموجودة عندكم في المدرسة، الكراسي، الجرس، السبورة، الطباشير، الدفاتر، الفرنسوية.. وأشياء عجيبة أخرى لا توجد في المسيد ولا يعرفها الفقيه نفسه، بينما من الأشياء التي تعلمها الطفل السارد في المسيد «الهرمكة» والتي يجهلها سعيد بدوره، فهو يتلقى تعليما عصريا قائما على فلسفة بيداغوجية حديثة، فيما العقاب البدني يبقى هو الآلية الأولى والأخيرة للتربية وللتحفيظ في المسيد (أنت لا تعرف كيف يخفي الأطفال رؤوسهم وراء الألواح اتقاء السوط والعصا) وبالتالي يصير التلقين بـ»الهرمكة» والتلقين بـ»الفلسفة» امتيازين اجتماعيين لكل واحد من الشخصيتين يتفاخر به كل منهما على حدة. يقول سعيد مخاطبا السارد: «أنت لا تعرف الفلسفة وأنا لا أتحدث مع من يجهل الفلسفة». في المقابل يقول السارد: أنا لا أرغب في معرفة من يجهل «الهرمكة» أيضا.
وإذا كانت الفلسفة تتغيا تكوين روح نقدية ميزتها استقلالية في التفكير والبحث عن أجوبة لدهشة الأسئلة الميتافيزيقية، حول وجود الله والماوراء والقيم الكونية الكبرى والكينونة بشكل عام، فإن الهرمكة كمنهاج تربية تهدف في المقابل إلى تكميم أصوات هذه الأسئلة المشاكسة التي شغلت الفكر الإنساني منذ الأزل والتشبث فقط باليقينيات والتوابث التي صنعها الإنسان، كسلطة معنية ورمزية وأيديولوجية لقمع أخيه الإنسان منذ القدم… لننصت لهذا الحوار بين السارد (الهرمكة) وسعيد (الفلسفة): الفلسفة هي التفكير والحكمة ــ أعرف ــ اسأل … ــ أين يوجد الله؟ ــ في السماء ــ إنه غير موجود! ــ أستغفر الله من قال هذا؟ ــ الفلسفا … ــ هذه «هذرة « فقط.. الهرمكة أفضل… فقلت أنت: الفلسفة هي التفكير والحكمة…).
ما من شك في أن هذه المقاربة العاشقة لقصة «ما الفلسفة» وأنا أعود إليها على بعد مسافة ثلاثة عقود سوف تفتح من جديد كثيرا من الأسئلة النقدية في تجربة محمد الدغمومي القصصية ليس في مجموعته البكر «الماء المالح» فحسب، وإنما في مجموع متنه القصصي، خصوصا أن تجربته الكتابية تجر وراءها خمسة عقود إن لم نقل خمسة أجيال، أي منذ ستينيات القرن الماضي، إلى جيل شبكات التواصل الاجتماعي بما يتيح للنقاد والقراء والأكاديميين تحديد ملامح تحولات القصة القصيرة في المغرب ما بعد الاستقلال إلى اليوم، هذه الحقبة المتميزة التي شهدت ولادة جيل طليعي بصم الكتابة القصصية ووسمها بفرادتها وخصوصيتها مثل، عبد الجبار السحيمي ومحمد زفزاف وأدريس الخوري ومصطفى يعلى ومبارك ربيع وأدريس الصغير ومحمد برادة ومصطفى المسناوي وخناثة بنونة ورفيقة الطبيعة وعبدالرحيم المودن، إلخ.
إشارة: «الماء المالح» مجموعة قصصية الطبعة الأولى الرباط 1988 عن منشورات التل

٭ كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية