«منذ البداية كانت لعبة الشكل تستهويني. فالحرية التي يتعامل بها الكُتّاب المعاصرون مع مادة الرواية كانت تثيرني للغاية. كل رواية تصبح مفاجأة تامة ومغامرة مثيرة جديدة لا تكرار فيها أو ابتذل… لم يكن الأمر متعلقاً بالحرفة، بالتكنيك وحسب، وإنما كان يشمل أساساً وجهة النظر، الرؤية، ما تريد أن تقوله». (.. تجربتي الروائية. مجلة الآداب البيروتية 1980)
تمتد تجربة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم ـ مواليد عام 1937 ـ بداية من روايته الأولى «تلك الرائحة» عام 1966، وحتى روايته الأخيرة «1970» عام 2019. هذه التجربة التي تعد اختلافاً كبيراً ومغايراً في السرد المصري والعربي، جعلت من كتابات الرجل محلاً لدراسات ومتابعات نقدية كثيرة. ربما أهمها ما أصدره الراحل محمود أمين العالم في كتاب بعنوان «ثلاثية الرفض والهزيمة» 1985، التي تناوت أعمال صنع الله.. «تلك الرائحة» «نجمة أغسطس» «اللجنة». وإن كانت هذه الدراسة تستتبع الروايات الأولى، إلا أنه صدرت مؤخراً في القاهرة عن دار الثقافة الجديدة دراسة أخرى تستتبع الروايات الأخيرة ـ رغم تفاوتها تقنياً وجمالياً ـ في كتاب بعنوان «اكتمال الدائرة. دراسة في ثلاثية صنع الله إبراهيم.. 67، برلين 69، 1970» للناقد والكاتب المغربي صدوق نور الدين، الذي يرى بدوره أن دراسة أمين العالم كانت بهدف تشكيل تصور شبه عام عن جزء من التجربة، وليس ككل، لكن الدراسة الأخيرة حسب صاحب الكتاب ـ تهدف إلى توسعة هذه الرؤية، وملامسة اكتمالها في روايات صنع الله الأخيرة.
بين الهزيمة والقلق النفسي
يبدأ نور الدين دراسته برواية «67» التي كتبها صنع الله إبراهيم في عام 1968، ونشرها عام 2015. وبخلاف رفض عدة دور نشر لبنانية وقتها الرواية، التي تجسد واقع الهزيمة، متمثلة زمنياً بمرحلة ما قبل الحرب، ثم الهزيمة، وأخيراً ما بعدها أو نتيجة ما حدث. تبدأ الرواية مع بداية العام، وتبادل الأمنيات بعام سعيد، لكن هذه الأمنيات تدور في جو خانق متوتر من الخوف وعدم الشعور بالحرية. وهو الأمر نفسه الذي جعل الإعلام هو الذي يقوم بالمهمة، بينما (الشعب) عبارة عن مجموعة من المتلقين السلبيين، في مهزلة من الأكاذيب عن الانتصارات الوهمية التي تتوإلى أخبارها على الناس.. «أغلقت الترانستور وارتديت قميصاً وبنطلوناً وغادرت الشقة. كان هناك زحام أمام البقال. وفي كل مكان كان الناس يتجمعون حول أجهزة الراديو، وهم يصفقون بحماس». ولا يفصل إبراهيم كعادته بين السياسي والنفسي.. فهو بداية يقيم في بيت شقيقه، ثم أحد الأصدقاء في ما بعد، ويقول «إني لا أعرف مكانا أذهب إليه، وفي وسعهم أن يصلوا إليّ في أي مكان». فهناك حالة قلق لا تفارق الراوي، تقابله بدورها حالة من عدم الاستقرار السياسي، بداية من دولة الخوف، ووصولاً إلى دولة كان مصيرها المحتوم هو الهزيمة.
من ناحية أخرى يربط نور الدين بين روايتي صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة» و«67» ويرى أن الأخيرة امتداد للأولى، بداية من طبيعة ودور الشخصية الرئيسية، وكذلك الفساد الاجتماعي والانهيار السياسي.
بين الروائي والرحلي
«برلين 69» توثق بدورها لمرحلة قضاها الراوي خارج القاهرة، ظاهرها الحلم الثقافي، وحقيقتها البحث عن عمل مناسب في مكان آخر، حيث ضاق به مكانه الأساس ـ من المفترض وطنه ـ وبالطبع لم تزل تلقي الهزيمة ظلالها على الراوي وما يحيطه. ويشير الكاتب إلى أن الراوي ذهب إلى برلين بعد عشرين عاما على تأسيس ألمانيا الشرقية، وبعد عشرين عاما أخرى سيسقط جدار برلين، فالرواية تقع في سياق (ما كان) و(ما سيكون). كذلك تنتمي هذه الرواية إلى ما يمكن أن يُطلق عليه أدب الرحلة، إضافة إلى سمة أدب اليوميات والرسائل أيضاً، انطلاقاً من مكان تأسيسي هو (وكالة الأنباء) التي يعمل فيها. ولا ينسى الراوي سرد بعض الممنوعات في الأنظمة الشمولية، التي لا تفرق بين برلين والقاهرة، من حيث القيود على حرية التنقل، التعبير، القراءة، المشاهدة والتظاهر.
سيرة الزعيم
ونأتي لآخر روايات صنع الله إبراهيم حتى الآن «1970» التي خط من خلالها سيرة جديدة لعبد الناصر، سيرة كاتب امتلك صوتاً لأول مرّة في مواجهة الزعيم الصامت الآن إلى الأبد (راجع «القدس العربي» في عدد الثلاثاء 17 مارس/آذار 2020). ويرى نور الدين أن اختيار شخصية عبد الناصر كمادة للكتابة كان قصديا للغاية من جهة صنع الله إبراهيم لاستكمال التصور الروائي والسياسي عن المرحلة، كتقييم أولاً، وكمقارنة للحظة الراهنة. وهنا ينتهج صنع الله (الذاكرة) كوثيقة أساسية، بخلاف عدة وثائق أخرى، لكنها الأقوى والأحد تأثيراً، ومنها.. أرشيف الجرائد والصحف، المذكرات والشهادات. أما (الشخصية) فيتم التركيز على السنة الأخيرة في حياة عبد الناصر. فهي سيرة غيريّة في الأساس، دون الاقتصار على السيرة الذاتية وحدها للمؤلف/الراوي في معظم أعماله السابقة.
وهنا تتم صياغة إعادة بناء شخصية عبد الناصر روائياً، من خلال حياة الرجل اليومية، الحياة السياسية والعسكرية، والعلاقات الشخصية. وتتمثل الحياة اليومية في معاناة المرض ومتابعة الصحف والإذاعة، وبداية العمل اليومي. ثم متابعة خطط مواجهة العدو، ويقابله الحد من الحريات في الداخل. وفي العلاقات الشخصية المحدودة، (هيكل) بالأساس، ثم الموافق على طول الخط (أنور السادات). دون أن ينسى الروائي أن يسرد أخطاء الزعيم قبل هزيمة يونيو/حزيران وبعدها، حتى رحيله، وصولاً إلى عبارة صنع الله في الرواية.. «خذلت نفسك وخذلتنا. ثم ذهبت. وذهبت معك مقدرات الأمة وآمالها إلى حين».
كاتب مصري