«ما تعودنا على أن نعتبره خيطاً فاصلاً أصبح الآن حداً، أو سلسلة من الجبال، أو على نحو أكثر دقة قبرا»
كافكا
لم أجد مخرجا من الغرفة. وكان معي شخص آخر. وانتبهت أنه في مرحلة التحول. كان ينتقل من شكل آدمي لحشرة ضخمة، وشعرت بالنفور والخوف معا، ثم انفتحت نافذة، وتنفست الصعداء، واقتربت منها، وشاهدت أمامي مرتفعات، وكلها مثقلة بصخور بيض. وقدرت أنها بقايا أجرام ملتهبة، وبردت على الأرض. وانتبهت إلى أن السماء تفتح أبوابها وتستعد لاستقبالنا.
ولكن كيف أغادر من هنا أولا؟
كانت النافذة مرتفعة وبدون سلم، إنما رأيت شخصا يعرج على السفوح، فناديت عليه وسألته: هل معك حبل؟ رد بصوت غاضب: ومن أين لي الحبال؟
ولم يكن بمقدوري إفلات هذه الفرصة، وتوسلت إليه أن يجدل لي حبلا من ألياف الأشجار. كانت على هذه السفوح عدة أنواع. وهي بجذوع من الغرانيت وبأوراق مخملية، إنها أشجار هذا الوقت من العالم، وكانت مأوى للسناجب. ولاحظت كيف أنها تقرض في الأغصان، لذلك هي بمعظمها جريحة، ويقطر منها نسغ أسود يروي الأعشاب. حتى أصبحت كل عشبة بحجم الإنسان البالغ، وكان بعضها يزحف على الأرض. يا له من عالم غريب، لا يوجد هنا شيء ثابت. كل شيء يتحرك، حتى الغيوم تتدحرج. انتبه: إنها لا تطير في السماء، ولكن تهبط نحو الأرض، ثم تذوب، وتنصهر كما لو أنها جليد.
تمهل الرجل قليلا، ورماني بنظرة عتاب، ولم يعن بالرد. فانتبهت أنه يدحرج صخرة سيزيف، وتبخر أملي مباشرة. هذا الإنسان ميؤوس منه. قلت في سري. لا شك أنه مشغول بذنوب كثيرة، ويجب أن يدحرجها لنهاية المرتفعات، وهناك يوجد فرن، ويمكنه التخلص منها، لا شيء ينهي الذنوب مثل أن تلقيها في النار، ولكن هل تتحول لرماد تذروه الرياح أم تتبخر؟ ولم أجد جوابا جاهزا في ذهني.
٭ ٭ ٭
ثم ابتعدت في أعماق الغرفة. فما الجدوى من النافذة بدون أمل بالفرار؟ ولمحت الرجل الحشرة. لقد برزت له قرون استشعار، وخرجت عيناه. لنقل إنهما أصبحتا جاحظتين، والأسوأ من ذلك أنها في رأسه. ليس مثل البشر العاديين، عينان فقط، وتبصر بهما أمامك. وكان يبدو مرعوبا، لكن من ماذا تخاف الحشرات العملاقة؟ ورأيته يدور حول نفسه بدوائر لا متناهية ويفكر بطريقة ليعكس التحول. وبدأت أشفق على نفسي من هذه الخاتمة. لن يحترمني أحد إذا تحولت، مثلا، لعنكبوت. وسأمضي عمري كله وأنا أهرب في الزوايا، وأنسج الخيوط مثل النساء. وداهمني ألم مبرح، كان هذا المصير مهينا. إنه انحطاط، هبوط في سلم التطور، عقوبة لا يستحقها رجل مثلي. ثم مرّ شيء من أمام النافذة، فأسرعت لأستنجد به، وتبين لي أنه نسمة هواء. كان للنسمات هنا جدوى. أحيانا تحملك مثل بساط الريح، وقد ترفعك كأنك في مصعد. ولكن فاتني الوقت، فقد كانت مسرعة، وهي الآن بعيدة. لقد سبقت الرجل المذنب. ووقفت أتأمل صراعه مع أخطائه، وهي تزداد بعد كل خطوة، وتضاعف من عذابه، ترى هل سيحالفه الحظ؟ فالقمة بعيدة. وأحيانا أتخيل أنها بدون وجود ملموس، بل هي محض وهم، أصلا لم أكن أراها، فقد حجبتها الغيوم وصفائح الضباب.
ثم غمرني اليأس، فأغمضت عينيّ قليلا. وهنا جاءت الإشارة، أشرقت نقطة نور في داخلي، أين بالضبط لا أعلم؟ ورافقتها حرقة عند الكتفين. هل بدأت بالتحول؟ على الأغلب حان وقته. وسألت نفسي: بعد أن تنفصل روحي عن محبسها كيف سأكون، جمادا أم كائنا حيا؟ ثم جمعت أطراف شجاعتي وفتحت عينيّ، وللأسف لم أجد النافذة، بل وقفت في محلها مرآة، وشاهدت صورتي عليها، ولكن لم تكن تشبهني. وكنت خفيفا مثل سحابة، وبوسعي أن أنتشر في الغرفة، ولو عادت النافذة وانبلج النور سأجد طريقة للتسلل منها والصعود.
٭ كاتب سوري