الأبعاد السياسية لجريمة قتل السودانيين في مصر

حجم الخط
0

الأبعاد السياسية لجريمة قتل السودانيين في مصر

د. يوسف نور عوضالأبعاد السياسية لجريمة قتل السودانيين في مصر كنت في أول الأسبوع استمع إلي نشرة الأخبار في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية وفجأة لفت نظري خبر أدركت بحسي أن صياغته لم تكن متوازنة، فقد جاء في الخبر أن الحكومة المصرية نجحت في أن تجلي السودانيين المعتصمين في ميدان مصطفي محمود وأن عددا من هؤلاء قد توفي، وما اعتبرته عدم توازن في الخبر استند إلي إدراكي انه لا تغيب علي فطنة العاملين في البي بي سي أن القيمة الخبرية في مثل هذا الأمر تكمن في أن عددا من السودانيين قد قتلوا في عملية الإجلاء وبالتالي كان يجب أن تتركز صياغة الخبر أولا علي عملية القتل ثم بعد ذلك تأتي عملية الإجلاء، ولكن ذلك لم يحدث إذ قدمت البي بي سي عملية الإجلاء علي عملية القتل ثم سمت عملية القتل عملية وفاة وبالتالي خرج الخبر عن مضمونه. ولم يحدث ذلك في تقديري بسبب ضعف في الصياغة فهو في تقديري عمل متعمد وقد حذرت منه من قبل في داخل البي بي سي وأكسبني ذلك عداء إدارتها التي استمرت في إقامة عدم التوازن في هذه المؤسسة حتي أصبح العالم العربي كله يقف مدهوشا من المستوي الذي انحدرت إليه الخدمة العربية، ولم أقف بالطبع عند الملاحظة بل حررت رسالتين بالبريد الإلكتروني الأولي للبي بي سي والثانية لرئيس الوزراء توني بلير وفوجئت أن مكتب رئيس الوزراء وجه لي رسالة إلكترونية بعد خمس دقائق من إرسال رسالتي إليه بينما لم تهتم البي بي سي بالأمر ولم تغير صياغتها بل إنها تجاهلت في اليوم التالي الموضوع وكأنه لم يكن ذا أهمية.ودهشت كثيرا عندما شاهدت الهجوم الذي وقع علي اللاجئين وفيه رأيت الشرطة تضرب السودانيين بالشلاليت وتجرجر النساء من شعورهن ولكن البي بي سي لم تغير موقفها، ولكن لماذا ندهش من موقف البي بي سي وقد تابعنا جميعا تصريح وزير الدولة في وزارة الخارجية السودانية الذي عبر فقط عن أسفه وعذر مصر مدعيا أنها قامت بكل ما يجب تجاه أولئك السودانيين وهو موقف لا يمكن أن نقبله من حكومة تحترم مواطنيها، فقد رأينا من قبل كيف دافعت الحكومة البريطانية عن مواطنتها التي اتهمت في جريمة قتل في المملكة السعودية ورأينا كيف تدافع بلغاريا عن مواطناتها المحكومات في ليبيا ولكن الحكومة السودانية لم تفعل ذلك لأنها تعتبر هؤلاء اللاجئين معارضين لنظام الحكم وبالتالي هي غير مسؤولة عن أمنهم أو حمايتهم بل قالت متشفية إن السودان بلد خير ورخاء وأبوابه مفتوحة للجميع كي يعودوا إلي أرض الوطن، وذلك قول فيه كثير من عدم المسئولية لان الحقيقة التي لا تخفي علي أحد هي أن عددا كبيرا من الأطفال والنساء قتلوا في مصر ولا بد أن تكون هناك مسؤولية ويجب إن تقف الحكومة إلي جانب مسؤوليتها الوطنية وإلي جانب حقوق مواطنيها غير أنها لم تفعل ذلك لأن نظام الحكم يرفض المعارضين وبرفض الرأي الآخر وهو يري أن ما فعلته الحكومة المصرية جزاء عادل لكل من يخرج عليها.وفي البداية نقول هل تتلاشي المسؤولية عن مقتل السودانيين أم أن الأمر يجب أن يأخذ مساره القانوني والسياسي الذي يحفظ للشعب السوداني كرامته علي الرغم من تفريط الحكومة؟الإجابة علي هذا التساؤل تتطلب في البداية تساؤلا آخر عن الكيفية التي قتل بها هؤلاء السودانيون، فلو أنهم قتلوا في اشتباكات أو نتيجة إطلاق رصاص عشوائي لقلنا إن الأمور مجرد حادث عرضي ولكن الحقيقة هي أن هؤلاء السودانيين قتلوا ضربا بالهراوات والعصي وكما نعلم فإن مقتل فرد واحد أو فردين بالهري ربما كان من المكن أن يفسر علي أنه حادث عرضي ولكن أن يقتل العشرات علي هذا النحو فمعناه أن الشرطة المصرية تعمدت القتل وأن الذين قتلوا لم يضربوا من أجل الزجر وإنما ضربوا حتي الموت وهنا تكمن المأساة خاصة أن معظم الذين قتلوا كانوا من الأطفال والنساء ولا يمكن أن تزعم الشرطة المصرية أن هؤلاء كانوا يهددون أمنها.وكنا في الواقع ننتظر ردود الفعل الدولية علي ما حدث لنتعرف علي حقيقة ما جري في القاهرة، وجاء أول رد فعل من الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية آدم إيرلي الذي عبر عن حزن الولايات المتحدة لما جري في القاهرة وقال إن حكومته تتابع الوضع من خلال سفارتها في مصر، وأما الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان فقد استنكر الجريمة التي وقعت ضد السودانيين وقال لا يوجد أي عذر يبرر ما حدث. ومرة أخري لم تظهر مثل هذه الآراء المهمة في إذاعة البي بي سي العربية كما لم تظهر مطالبة هيومان رايتس ووتش بضرورة أن تكون لجنة تحقيق مستقلة لمعرفة ما جري.ولا شك أن الصحافة السودانية وقفت موقفا مخالفا لموقف الحكومة ومنها من رأي أن العلاقات المصرية السودانية قد تأثرت إلي الأبد ومنها من دان موقف الحكومة السودانية وقد أجمع الرأي العام السوداني باستثناء الحكومة ومناصريها علي أن الحكومة السودانية قد تقاعست في حقوق المواطنين السودانيين في مصر بل إنها منحت الحكومة المصرية صك براءة في هذه الجريمة التي راح ضحيتها مواطنون أبرياء.ولكن للحق فإن عددا من النواب المصريين وخاصة من جماعة الإخوان المسلمين في مصر دانوا موقف الحكومة المصرية وطالبوا بمعاقبة من قام بقتل هؤلاء السودانيين الأبرياء كما وقفت الصحف المصرية المستقلة موقفا مشرفا ومنها صحيفتا العربي والأسبوع، وبالطبع لم يكن موقف الشعب المصري مشابها لموقف الحكومة فمنهم من أغضبه القتل ورأي أن السودانيين في مصر هم في وطنهم الثاني ويجب ألا يعاملوا بالطريقة التي عوملوا بها.ولا بد أن نتوقف هنا عند الأسباب التي تطور بها الوضع إلي ما تطور إليه، فقد قالت مديرة وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إن جميع المحاولات مع اللاجئين السودانيين في مصر قد فشلت وهم كانوا يطلبون مطالب تعجيزية بالإصرار علي ترحيلهم إلي بلد ثالث علي أن يكون أوروبيا أو متقدما وهو ما فسر علي أنه محاولة منهم لتحسين أوضاعهم المعيشية، ولا غضاضة في أن يكون ذلك واحدا من الأسباب ولكن يجب أن نعترف أن السودان واجه ظروف حروب وقتال وأن الكثيرين قد هاجروا أوطانهم وربوا في المنافي بعد أن انقطعت الصلة مع الوطن، وعلي الرغم من ذلك فإن رواية اللاجئين لظروفهم تختلف عن الروايتين المصرية والسودانية فهم يقولون إنهم لم يهضموا في حقوقهم فقط بل واجهوا تفرقة عنصرية بغيضة في مصر وهذا قول قد يكون فيه بعض الصحة ولكنها ليست الصحة كلها ذلك أن المشاكل التي اشتكي منها هؤلاء والتي تتعلق بالعمل والاستشفاء والتعليم هي مشاكل يعاني منها الشعب المصري نفسه، ولكن بصرف النظر عن ذلك فيجب ألا يكون هناك اتفاق سري بين الحكومتين المصرية والسودانية لإعادة هؤلاء اللاجئين لأن هذا أمر ترفضه الأعراف والقوانين الدولية وإذا سمح به فسيشكل ظاهرة خطيرة لأن كل دولة بعد ذلك سوف تطالب بتسليمها اللاجئين بذرائع مختلفة وبينهم من لهم مواقف من أجل حرية شعوبهم .ولا اعتقد أن الحكومتين السودانية والمصرية لا تدركان نوع العمل الذي قامتا به وهو عمل مخالف للشرائع الدولية وحقوق الإنسان وما قامت به الحكومة المصرية بواسطة الأمن المركزي هو من قبيل العمل الذي تقوم به ضد مواطنيها وهو عمل مخجل عندما يصدر من بلد كمصر نظر إليها العرب جميعا علي أنها الأمل في النهضة والتقدم العربي، ولكن منذ ثورة يوليو دخلت مصر في نفق النظم الشمولية وهمشت الشعب المصري تهميشا كاملا وصارت تبيع له الشعارات ولم تختلف النظم الشمولية في السودان عن ذلك وها هو السودان بعد نصف قرن من الاستقلال نراه يحبو وكأنه طفل رضيع أمام حكومة عاجزة تبيع الوطن قطعة قطعة من أجل المحافظة علي سلطة وثراء مجموعة من المسيطرين علي النظام حتي وصل بها الأمر في نهاية المطاف لأن تشيد بصبر الحكومة المصرية علي اللاجئين السودانيين دون أن يعنيها من أمر قتلهم شيئا.ويبدو من كل ذلك أن جريمة قتل السودانيين في القاهرة ليست جريمة محدودة بظروفها الخاصة وإنما هي تحد تقوم به أنظمة حكم قمعية ضد شعوبها وذلك أمر يستوجب يقظة الشعوب من أجل رفع صوتها رفضا لهذا الواقع الأليم حتي لا يصدق عليها القول الشائع أكلت يوم أكل الثور الأبيض.وما نراه هو أن قضية قتل السودانيين في مصر لن تمر مرور الكرام علي الرغم من محاولة الحكومتين لملمة الأمر فالحادث ستكون له انعكاسات سلبية علي العلاقات مع الحكومتين كما سيضئ مشعلا للوعي بالإجرام المنظم الذي تنظمه بعض الدول ضد شعوبها المقهورة.ہ كاتب من السودان9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية