استبشر أنصار العدالة والحق والسلام خيرا عندما تحرك مدَّعي عام المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، وطلب من المحكمة إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالنت.
كانت حركة صغيرة جدا قياسا بحجم الإبادة المستمرة التي ترتكبها إسرائيل في غزة تحت قيادة هذين المجرمَين. وكان تنفيذها ميدانيا يبدو أقرب إلى المستحيل بسبب الملابسات القانونية والسياسية المرافقة لإصدار المذكرات. ورغم ذلك استبشر قطاع واسع من الرأي العام الدولي خيرا، بل اكتفى العالم بالجانب الرمزي للموضوع وهو أن القانون الدولي فوق الجميع وأن مدَّعي عام المحكمة لا يخشى أحدا.
لكن أين صوت المحكمة وإلى أين وصل طلب كريم خان بعد نحو أربعة أشهر من تقديمه؟
يبدو الموضوع كله وكأنه ضاع وسط الإبادة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، ثم لاحقا في الضفة الغربية. يبدو صوت المدافع والصواريخ والمسيّرات الإسرائيلية أقوى من كل صوت.. حتى صوت عشرات الآلاف من النساء والأطفال وعمال الإغاثة والكوادر الطبية.
في الحقيقة لم يمت موضوع مذكرات الاعتقال، لكنه يحتضر في أروقة المحكمة وبين الألغام السياسية والخوف الأعمى من ضغوط اللوبيات الداعمة لإسرائيل ومن التهديدات الأمريكية.
ما كان للموضوع أن يصل إلى مرحلة الاحتضار لولا الضغط الغربي الهائل، في كل الاتجاهات، لمنع تنفيذ مذكرات الاعتقال.
بينما كان العالم يتابع متحسرا صور الحرب ومشاهد الرعب القادمة من قطاع غزة، كانت جهات أخرى، على مستويات عالية جدا، تعمل بلا هوادة على قتل كل فرص خروج طلب المدّعي كريم خان إلى النور.
ليس من المبالغة القول إن كشف خان يوما (لو فعل) عن تفاصيل ما تعرض ويتعرض له من ضغوط وتهديد بسبب طلب مذكرات الاعتقال، سيصاب العالم بالذهول.
من الأطراف التي عملت في هذا الاتجاه، جماعة من كبار القادة السابقين في حلف شمال الأطلسي.
تسمى الجماعة «المجموعة العسكرية رفيعة المستوى» وتتشكل من قادة عسكريين كبار تقاعدوا من العمل في بلدانهم ومن حلف شمال الأطلسي. ينتمي الأعضاء إلى دول عدّة منها فرنسا وإسبانيا وفنلندا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة. بعضهم تولى مناصب قيادية حساسة مثل الجنرال البريطاني المتقاعد ريتشارد كمب. شاع اسم الجنرال كمب أثناء قيادته قوات بلاده في أفغانستان إلى غاية تقاعده سنة 2006، وعمل في العراق والبلقان وإيرلندا الشمالية. ترأس أيضا مجلس الطوارئ الحكومي المعروف في بريطانيا باسم «كوبرا» الذي يتكون من كبار وزراء الحكومة ورؤوس الأجهزة الأمنية ولا ينعقد إلا في حالات الطوارئ والحروب. وضمن أعضاء المجموعة الآخرين جنرال الاستخبارات الفرنسية السابق آلان لامبال، والجنرال الأمريكي جيفري كورن (عضو المعهد اليهودي للأمن القومي وعضو الفريق المكلف بملف سجن غوانتانامو) وقائد أركان الجيش الإيطالي بين 2001 و2004 الجنرال فنسنزو كومبوريني.
بينما كان العالم يتابع متحسرا صور الحرب ومشاهد الرعب القادمة من قطاع غزة، كانت جهات أخرى، على مستويات عالية جدا، تعمل بلا هوادة على قتل كل فرص خروج طلب المدّعي كريم خان إلى النور
تضم المجموعة أيضا مسؤولين سياسيين سابقين منهم وزير خارجية هولندا السابق، اليميني الشعبوي، يوريل روزنثال (2010 إلى 2012) ونائب رئيس حكومة فنلندا السابق تيمو سويني، وهو أيضا وزير خارجية سابق شارك لاحقا في إنشاء «حزب الفنلنديين» ذي النزعة اليمينية الشعبوية. وتضم كذلك رافائيل بارداخي، وهو مستشار الأمن القومي في حكومة الإسباني خوسي ماريا أثنار اليمينية (بين 1996 و2004). قبل أكثر من 30 سنة أسس بارداخي «مجموعة الدراسات الاستراتيجية» التي انتهى بها الأمر في حضن المحافظين الجدد في الولايات المتحدة ثم لاحقا حليفة لتيار ستيف بانون، كبير مستشاري الرئيس دونالد ترامب. وفي أيلول (سبتمبر) 2010 أسس مع أثنار «مبادرة أصدقاء إسرائيل» في إسبانيا، وهو مديرها التنفيذي حاليا. بعد سقوط حكومة أثنار في انتخابات 2004 التحق بحزب «فوكس» اليميني الشعبوي.
يكشف موقع «إنتلجنس أونلاين» الإخباري (27 أغسطس الماضي) أن إسرائيل استضافت أحد عشر عضواً من «المجموعة العسكرية رفيعة المستوى» خلال شهر تموز (يوليو) الماضي. نُظمت للوفد زيارات شملت مقرات عسكرية وقطاع غزة، حتى تخوم رفح، تحت حراسة عسكرية إسرائيلية مشددة، ومواقع أخرى.
بعد انتهاء الزيارة عاد «الضيوف» إلى مكاتبهم لبدء الضغط على المحكمة الجنائية الدولية. أرسلت المجموعة مذكرة إلى قضاة المحكمة تطلب منهم رفض طلب كريم خان إصدار أوامر الاعتقال بحق نتنياهو وغالنت. من بين المسوِّغات أن طلبات خان «سابقة لأوانها» و«غير مبررة»: سابقة لأوانها لأن إسرائيل لم تُجرِ بعد تحقيقاتها الداخلية الخاصة. وغير مبررة لأنها ستضع عراقيل أمام عمل الجيوش النظامية، وتؤسس لسوابق «تمنع هذه الجيوش والديمقراطيات، ومنها إسرائيل، من خوض حروب المدن» إذا ما استدعى الأمر.
من الملاحظ أن المجموعة تتشكل من عدد من المنتسبين لليمين الشعبوي المناهض للأجانب والعرب والمسلمين. لكن لا غرابة في ذلك لأنه أحد أوجه زواج المصلحة بين هذا اليمين واللوبيات الداعمة لإسرائيل والذي جعل اليمين العنصري الأوروبي حليفا لإسرائيل رغم تاريخه الفاشي الحافل بالكراهية للآخرين، وبينهم اليهود، وكرّس الانطباع بأن اليسار عدو لها وخطر على وجودها.
من الصعب أن يصدّق عاقل أن كل هؤلاء القادة التقوا صدفة واتفقوا على تسخير خبراتهم العسكرية والاستخباراتية والقانونية لخدمة إسرائيل، حبا في نتنياهو أو شفقة على غالنت. لقد جيء بهم ودُفع لهم. رائحة المال في هذا الموضوع تزكم الأنوف مثلما فعلت ولا تزال في الولايات المتحدة وغيرها.
يحتاج حلفاء القضية الفلسطينية والمتعاطفون معها إلى تأمل هذه الاختراقات الفعّالة واستيعاب أبعادها الخطيرة ومن ثمة بدء التفكير في سبل الحد منها، بأموالهم وأفكارهم وكل ما أوتوا من قوة.
من دون ذلك سيواصل الأخطبوط مدّ أذرعه وتطويق وخنق كل من لا يعجبه حتى الموت.
كاتب صحافي جزائري