عندما نقرأ رواية لكاتب عربي، ونجد كل شخوصها وأحداثها على سبيل المثال، تتحدث عن الذي جرى للأيزيدين من عمليات قتل وترويع وإبادة واغتصاب على يد عناصر تنظيم «داعش»، كما هو الحال في رواية «عذراء سنجار» للكاتب العراقي العربي وارد بدر السالم، فهل يمكن اعتبارها ضمن أدب الأقليات؟ فإذا ما كانت الإجابة بنعم، فهذا يعني أن الحكم النقدي لم يأخذ بنظر الاعتبار هوية الكاتب الذي ينتمي إلى الأغلبية السكانية، وهنا تتهاوى حدود مفهوم أدب الأقليات وتصبح قابلة للمطاطية والتمدد، وربما سيكون من الصعب ضبطها، والسؤال نفسه يمكن أن يطرح أيضا حول نتاج الكاتب القصصي العراقي بولص آدم، والروائي سنان أنطون والشاعر سركون بولص، على اعتبار أن الكتاب الثلاثة مسيحيون من حيث ديانتهم، وينتمون في هويتهم القومية والدينية إلى الأقليات، لكن نتاجهم الأدبي أوسع من أن يحشر في الحدود الضيقة لمفهوم أدب الأقليات، بناء على رؤيتهم الإنسانية وتنوع موضوعاتهم والشخصيات التي تحفل بها إصداراتهم.
تأليه الأقلياتية في النص
لو راجعنا نقديا ما تم إنتاجه في العراق تحت مفهوم أدب الأقليات من كتابات صُنِّفَت على يد نقاد أكاديميين باعتبارها نصوصا أدبية، سنخرج بنتيجة مخيّبة، لأنها ليست سوى ركام باهت، أفرزته سنوات ما بعد الاحتلال الأمريكي. نصوص لا تحمل قيمة فنية طالما لم تخرج من مشغل الإبداع، بل خرجت من المطبخ السياسي للاحتلال، ليس بدافع تنمية الوعي بأهمية النتاج الأدبي للتعبير عن الهوية والموروث الثقافي للأقلية، بقدر ما تندرج تحت قصدية محددة هدفها تأليه الأنا الأقلياتية وتضخيم ذاتها وعزلها اجتماعيا عن المحيط العام، الذي تلتقي فيه مع بقية المكونات الاجتماعية بعناصر مشتركة، تاريخية وثقافية واجتماعية وإنسانية، التي لم تكن يوما ما في حالة قطيعة معها. ومن الوارد جدا أن تكون نتيجتها اندحار النص الأدبي على دكة المفهوم الأقلياتي، حسب أجندة المشروع السياسي الأمريكي في العراق، وكل نص يخرج بوصاية من تحت أستار هذا المفهوم سيضعف أدبية النص في ثقافة الأقليات.
هشاشة الدوافع
لا أحد يستطيع نكران هشاشة الدوافع الفنية والجمالية أمام قوة هذا المفهوم الملغَّم والمفخَّخ، بما يحمله من سلطة أيديولوجية تخريبية ضد «أدبيَّة» النَّص، ما يفتح الباب واسعا للترويج لنماذج ضعيفة، وهذا ما يبدو في كتابات نقدية ودراسات أكاديمية ورسائل وأطاريح. وفي مثل هذا المناخ سيطالك الاتهام بالشَّخصنة، إذا ما تعرَّضت بالنقد لنتاج واحد من الأسماء التي خدَمَها مفهوم الأقلياتية ببعده «السياسي» الذي صدَّرته إلينا سلطة الاحتلال. وعندما يتم فرض هذا المفهوم وتغليبه على النتاج الأدبي في إطار التقييم النقدي، سيكون من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى تكريس مغالطات غير بريئة، إذ لا علاقة تجمعها بالأدب، مثلما بدأ يتردد على ألسن عدد من النقاد في الوسط الثقافي العراقي من توصيفات مثل: «أدب الأغلبية» و»أدب الأقلية»! بينما ليست هناك أغلبية وأقلية في الأدب، إنما هناك نص أدبي ونص غير أدبي.
إن السقوط في فخ مثل هذا الترويج، يعني تعميقا لمشاعر الانعزال داخل مكونات المجتمع العراقي، وتشظي ثقافته بكل تنوّعِ روافدها، وبذلك يتحقق مشروع الاحتلال الأمريكي طالما أفلح في تلغيم المشهد الإبداعي بعناصر الصراع السياسي الدائر منذ عام 2003، وسيغيب بالتالي عن النقد الأقلياتي وهو يقرأ النصوص كل ما له صلة بالعناصر الجمالية.
النص مُطلق جمالي
المقاربة السياسية للأدب في إطار النقد ضمن المفهوم الذي يصنفه ويمزقه إلى أدب أقليات وأدب أغلبية، يأخذه إلى ضفة بعيدة عن جوهره، لأن النص الإبداعي بطبيعته مُطلق جمالي بغض النَّظر عن هوية المُنتِج، سواء كان من الأغلبية أو الأقلية، وهذا ما ينطبق على بقية الفنون مثل السينما والتشكيل والنحت، بمعزل عما يقدمه لنا الأثر الفني من ملامح تؤكد خصوصيته البيئية والاجتماعية بمفرداتهما الفلكورية والتراثية. لأن كل نتاج إبداعي لن يخضع في بنية خطابه إلى اشتراطات الخطاب الأيديولوجي والسياسي، وما يفرضانه من قيود. وتبقى الرؤية الجمالية في التقييم النقدي للنص غير قابلة للقسمة، ولا يصيبها الاختلال القائم في الرؤية السياسية التي عبرت عن نفسها بوضوح في نظرتها إلى المجتمع العراقي، من بعد أن سقطت بغداد تحت سلطة المحتل الأمريكي، وفي سياق هذه الرؤية ذهبت أقلام بعض النقاد في كتاباتهم إلى ناحية تبدو فيها منشغلة بتجنيس النصوص ما بين أقلية وأغلبية، ما بين هامش ومركز، من غير أن تتوقف طويلا أمام ما يقتضيه النص الأدبي من اشتراطات فنية، بينما من ناحية أخرى أولت أهمية للعناصر التي تعلي من شأن الخطاب السياسي.
مفهوم الأقليات
إن مفهوم الأقليات يتموضع في تعريفات مختلفة لدى الباحثين، لكننا ننحاز إلى التعريف الذي يؤطره بمعيار الوضع العددي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، لهذه المجموعة وتلك. وفي دراسته الموسومة «الأقليات سيرة المصطلح ودلالة المفهوم» يذكر الكاتب المغربي محمد بلبشير «بأن هذا المصطلح ظهر حديثا في الحياة السياسية والاجتماعية للدول، عندما تطرقت المحكمة الدائمة للعدل الدولي في نصوصها التي تناولت قضيتين، الأولى بتاريخ 15سبتمبر/أيلول 1923 بخصوص شروط اكتساب الجنسية البولونية، والثانية يوم 31 يوليو/تموز 1930حول الجاليات اليونانية البلغارية.
انسداد التجربة
إن الانجراف إلى منزلق هذا المفهوم بخلفيته ذات البعد السياسي والاجتماعي والعددي، يفضي إلى حالة انسداد في وعي التجربة الأدبية وتصنيفها، إذ ستنحسر بسببه فرصة التقييم النقدي لنتاج الأدباء الذين ينتمون للأقليات إلى مساحة ضيقة بالشكل الذي يتم فيه حشر نتاجهم في زاوية يصار فيها إلى التركيز على ما يحمله من خطاب سياسي، لأن المعايير الفنية في العملية النقدية ستغيب، وستحل بدلا عنها هرطقة الأيديولوجيا وهذيانها السياسي، ولا غرابة في مثل هذا المشهد المدجج بالأوهام والتزييف والترقيع، أن تخرج بسببه سنويا من المطابع عشرات الإصدارات التي تكتسب صفتها الأدبية من مرجعية أقلياتية ذات مفهوم سياسي وليس إبداعيا، لكنها تعجز عن تحقيق أي أثر جمالي لدى المتلقي، حتى لو كان هناك جمهور أقلياتي يتفاعل معها بدوافع سياسية.
يبقى التعامل النقدي مع النص الإبداعي بعيدا عن السياق السياسي هو الذي يمنحه حرية النمو المستمر في حقل الثقافة والذائقة والوجدان، ويحصنه من قمع المفاهيم التي تسعى لأدلجته. والكتابات النقدية التي تحشر النص في هذه الزاوية بقدر ما تبدو مخادعة بقدر ما هي ساذجة وسطحية في رؤيتها للأدب.
كاتب عراقي