الأدب الرقمي: «خزان» لرؤية جديدة وتجربة في الثقافة والحياة

شكل الحديث عن سؤال «ما الأدب؟» موضوعا محوريا في نظرية الأدب، ودفع هذا السؤال موريس بلانشو إلى الاعتراف بأن الأدب يسير إلى نهايته وزواله، وهو يقصد بذلك أن الأدب سيظل مشدودا إلى المستقبل وبويطيقا المجهول، يشيد عوالمه التخييلية خارج الحدود، دون أن يستقرعلى شكل وصيغة ثابتين.
تجاوزت مقاربة الأدب والكتابة الأدبية والسردية تحديدا حدود الأسئلة الكلاسيكية ومقولة الأجناس الأدبية بمفهومها الأرسطي والبلاغي القديمين، وهذا ما يستوقف الباحث وهو يطالع أعمال رولان بارت في رصده للحظات الأساسية في تاريخ الكتابة الأدبية، والمقتربات النقدية لسارتر، والحركة الرومانسية، ومدام دوستايل، وباختين وجوليا كريستيفا وجاك دريدا وجوناثان كللر، وغيرهم ممن استوقفهم الأدب والكتابة بوصفها اشتغالا نصيا، وقضية معرفية وجمالية حظي السرد فيها بحصة كبيرة من الاهتمام.
في هذا المنحى، زهور كرام واحدة من الأكاديميات العربيات، اللواتي مثلن الوعي بأسئلة الأدب وتجديد المعرفة الأدبية، فجعلن من سؤال الأدب، وتحولات الكتابة بوصفها مشروعا وقطب الرحى في منجزهن النقدي والإبداعي. ومن هذه الزاوية جاءت كتابتها تتوخى بناء جسور من المعرفة بين جمهور القراء والنصوص الأدبية، وقد حققت بذلك إضاءات مهمة جدا لتلك الآثار المفتوحة التي تكتنزها النصوص وتتداولها حركة النقد.

تجديد الوعي النقدي

في هذا المساق، يمكن عد كتاب «السرد الأدبي من التجريبي إلى الترابطي» إصدارات دائرة الثقافة، حكومة الشارقة 2021 مساهمة في إنتاج وعي نقدي بالنص الرقمي، وإضاءة لحياة النصوص الأدبية عبر الوسائط التكنولوجية، ولئن كانت أفكار الكتاب وتصوراته تعد امتدادا لتفكير عميق يتصل بكتاب سابق لزهور كرام وسمته بـ«الأدب الرقمي أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية» الصادر في طبعتين 2009 و2013 وسلسلة «روابط رقمية» وانشغالها البالغ بأسئلة الأدب الرقمي تأليفا وتكوينا وتأطيرا، فإن كرام تدرك ـ في هذا المنجز النقدي، الذي تتوزع مساحته النصية على 208 صفحات ـ جيدا أهمية تجديد الوعي النقدي بالنص والكتابة ومناخ التلقي اليوم، وتضع كل التصورات موضع تساؤل على مساحة النص الأدبي بصيغتيه الورقية والرقمية، كما تنبهت إلى ضرورة الاهتمام بالنص الرقمي، وعدم إقصائه من نظرية الأدب؛ لأن الانشغال بالنص الرقمي سيغني التفكير في حياة النص الأدبي، بوصفه إنتاجا أدبيا يعيش حالة تحول مستمر، والوعي بهذه الحالة وعي بالمستقبل، بزمن التحول وسياقاته.
الانشغال النظري بسؤال الأدب والكتابة وتحولات الشكل وفق أسئلة راهنة جعل كرام تنطلق من مرجعيات عميقة وغنية، أشادت فيها بجهود المفكر عبد الله العروي وميشال بوتز وكاترين. ن. هايلز… هذا الأفق النقدي المتسع الأبعاد يستوقف الباحث من خلال الفصول الخمسة التي تشكل هذا المنجز، وهي: 1 سياق التفكير في المعرفة الأدبية، 2 من التجريبي إلى الترابطي تحولات في نظام النص الأدبي، 3 الأجناس الموجزة والترابط الخارج ـ نصي، 4 الترابطي استمرار وتطور، 5 مظاهر تحولات مفاهيم الكتابة الأدبية.
وإمعانا في إضاءة أهم القضايا المرتبطة بالأدب الرقمي وعلاقته بالتنمية، رأت الناقدة أنه من الضروري الالتفات إلى مستوى حضور الأدب الرقمي في الدرس الجامعي، واستحضار أهم المؤتمرات واللقاءات التي دشنت لتفكير جديد في هذا الموضوع، بدءا بملتقى «الأدب الإلكتروني العربي، آفاق جديدة ورؤى عالمية» في دبي، و«الرواية في عصر المعلوميات» في مصر 2019 «مؤتمر الشارقة السادس عشر للسرد العربي، الرواية التفاعلية الماهية والخصائص» في عمان… وهي محطات علمية دعت إلى ضرورة تحليل النصوص الرقمية والتفاعلية عربيا وغربيا، كما أسهمت في الاعتراف الأكاديمي بالأدب الإلكتروني، بل أتاحت للمنشغلين بهذا الأدب الاغتراف من نظرية الأدب وتاريخ الأدب والنقد، ولعل هذا التأخر في الاعتراف، كما تقول الناقدة كرام، عانى منه الأدب النسائي وأدب الطفل.

يشكل التجريب ذاكرة للأدب الرقمي، ولعل التجريبي هو الذي قاد إلى الترابطي، والتشكيك في ثوابت الكتابة والانزياح في اللغة، كما أكدت كرام على ذلك من خلال استحضار تجربة الكوليزيوم.

إذا كانت القراءة تجدد الأدب، وإذا كان تاريخ الأدب هو تاريخ قراءته، فإن كرام تدعو إلى قراءة الأدب الرقمي، وفق منهج تفاعلي، حيث تتوقف عند القراءة بوصفها خطابا مسؤولا، مشيرة إلى أن القراءات ليست كلها مؤهلة لتلك الوظيفة التاريخية والجمالية، خصوصا أن قراءة الأدب الرقمي قراءة بصرية تعتمد على التفاعلية والإيجابية والتفعيل الوظيفي للترابطي، لأن الأشكال الأدبية الجديدة «خزان لرؤية» وأن نظام النص التفاعلي يفرض إنجازا قرائيا خاصا وصيغا ترابطية نشيطة.
يعتمد الكتاب أسلوبا مميزا في إبداع طريق مختلف في صوغ الأسئلة ومناقشة قضايا الأدب والكتابة والتخييل ومداخل قراءة النصوص، ويلفت النظر إلى أهمية التجارب المهمة في هذا المجال كتجربة فاطمة البريكي مع طلبتها حول الأدب البصري، وطرق تحويل النصوص الورقية إلى نصوص بصرية، ومدى علمية هذه التجرية التي جعلت منها كرام مشروعا علميا حاضرا في الجامعة المغربية وفي أهم كتاباتها الأخيرة.
لقد كشفت الناقدة عن الانتقال من السرد الأدبي إلى الأدب الترابطي، من خلال الوقوف عند تحولات الأدب وموجات التجريب التي عرفها، والتي ساهمت في إنتاج أشكال أدبية أضافت للمعنى إضافة جوهرية. هذا التحول أعاد طرح أسئلة حول علاقة العرب بالتكنولوجيا والأدب بالوسائط التكنولوجية، بل دفع نحو مراجعة مفهوم الأدب وتجديد التفكير في مفاهيم الهوية والذاكرة والسلطة والثقافة والمثقف والإنسان والزمان والمكان والذكاء الاصطناعي والافتراضي والرقمي والتفاعلي.
يشكل التجريب ذاكرة للأدب الرقمي، ولعل التجريبي هو الذي قاد إلى الترابطي، والتشكيك في ثوابت الكتابة والانزياح في اللغة، كما أكدت كرام على ذلك من خلال استحضار تجربة الكوليزيوم، والنماذج التي قدمتها نصوص عبد الواحد استيتو ومحمد اشويكة وسعد السنعوسي وأنيس الرافعي، وكتابات محمد سناجلة ولطيفة باقا ونبيل سليمان وشهلا العجيلي، وسنان أنطون وعبد الكريم الجويطي ورشيد خديري وعبد الله المتقي… وكيف ساهمت الرواية الحداثية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا في خلق مساحة آمنة للإنسان والتاريخ والجغرافيا، ووصلت وصلا خلاقا بين الذاكرة والمستقبل، بعدما تحلق الخراب والضياع والشرود في كل مناحي الحياة. لقد أكدت كرام على نجاح عدة نصوص سردية تجريبية في تسريد الواقع وبناء بدائل للحياة، وجعل الشكل الأدبي خزانا لرؤية أغنت طبيعة التخييل السردي، وخصبت أسئلة النقد، وساهمت في بناء شراكة جديدة بين القارئ والنص.

رؤية منسجمة

هكذا تنتخب كرام نصوصا مختلفة لبناء تصور غني في هذا المنجز، وبذكاء تبني أفقا نقديا ينطلق من أنماط نصوص أدبية مختلفة، تختبر فيها الفضاءات النصية الجديدة التي فرضتها صنعة الكتابة وتحولاتها، والانزياح عن ترسيمات تكوينية خاصة بكل جنس أدبي. ولعل إحاطة الناقدة بكل مستويات التحقق والتحويل والانتهاك التي ميزت النماذج المنتخبة دفعتها إلى تبني رؤية منسجمة وأسلوب علمي استندت فيه إلى جهاز مفاهيمي وظيفي، خصبت فيه النظر إلى ثقافة الشراكة، ومفهوم التفاعل بوصفه مفهوما مؤسسا للأدب الرقمي، ومفهوم الترابط والروابط، مفهوم الضفيرة، النظام الترابطي والقراءة الترابطية، والقراءة الرقمية وما تستدعيه من تفاعل ترابطي بين الوحدات وصيغ ميتانصية، وغيرها من المفاهيم التي تؤكد ريادة كرام ومعرفتها العلمية بإشكالات الأدب الرقمي وانفتاحها على ما راكمته نظرية الأدب، وهذا ما منح منجزها عمقا اغتنى باقتراحها خطاطة لقراءة النصوص الرقمية، جعلت يحقق رهانه في مقاربته لوضعيات تخييلية رائدة، بشكل يؤكد أن القراءة الرقمية تجربة في الثقافة والحياة.

كاتب وأكاديمي مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Mîk Àrdā:

    هل استطاعت زهور كرام ان تستحدث مقولات نقدية جديدة في قراءة الادب الرقمي؟

إشترك في قائمتنا البريدية