الأدب العربي شديد التّجذر في التاريخ، وبناء على ذلك فثمة نوع من الحدود التي أقرتها الأكاديمية من حيث تقسيم الأدب العربي إلى أدب قديم، وآخر حديث، على الرغم من التحفظات التي تتصل بمفهوم الحداثة على مستوى الرؤية والتشكيل، كونها معضلة فلسفية، غير أن هذا التقسيم يخضع لمنطق زمني، أو تاريخي، فمفهوم الحديث أو منطق (التحديث) يعلق بتلك التحولات، التي بدأت مع حملة نابليون بونابرت على مصر، أو الشرق – على الرغم من طابعها الاستعماري- وبناء عليه، فإن مفهوم الحديث يبدو نتاجاً خارجياً، أو أنه نتاج وعي الغربي بتمكين حكمٍ ما.
وعلى الرغم من الجدل حول هذا الموضوع فإن مفهوم الأدب الحديث، كما المعاصر يتسلل إلى سياق مأزوم، في عملية تعريف الذات العربية في ارتطامها مع سؤال الحداثة، وقيم التحديث، وما طرأ بعد ذلك من قلق العولمة، وتداعيات الثورة الصناعية الرابعة، التي أنتجت أدباً مغايراً، لا في العالم العربي فحسب، إنما في العالم أجمع، وهكذا فإن وقائع الأدب العربي (الحديث المعاصر) زمنياً يبقى في حدود التعبير عن وقائع الأحداث في تزامنها مع التاريخ، أو رهين التحولات المستجدة، غير أن العناية الغربية، أو التي تصدر من الآخر تبدو مسكونة فقط بالنموذج الموروث.
إن تمثلات الغرب تجاه الأدب العربي بدأت ضمن سياقات استشراقية، مع التأكيد على أن الاحتكام للعوامل الأكاديمية والمعرفية والاستشراقية، بمنظورها السلبي هي أيضا مثار جدل، وكما يمكن القول بأن الوعي الغربي لا يرغب في أن يتخذ من نتاجات النصوص العربية الحديثة، أو المعاصرة بوصفها فعلاً منجزاً للتعبير عن الذات العربية الحديثة، في حين لا يلتفت إليه بالزخم أو الحماس عينه، الذي تتولاه الآداب الكلاسيكية، فالمنظور الغربي يرى في الآداب العربية الكلاسيكية ربما الصيغة الوحيدة لتمثيل الآداب العربية، أو ربما يرى فيه التصور النقي أو الحقيقي للذات العربية، التي تجمدت في القرون التي مضت، حيث ارتهنت هذه الرؤية لخلفية تاريخية بدت سكونية في قراءة الشخصية العربية، تبعاً لتلك التصورات التي تتصل بمخازن النص العربي، بدءاً من العصر الجاهلي وانتهاء بحملة نابليون على الشرق.
في لقاء جمعني مع بعض النقاد والأكاديميين الغربيين، استوقفتني عبارة لأحدهم، فحين سألته عن اهتمامه بالأدب العربي المعاصر، بدا اهتمامه خجولاً، ولكن استدرك قائلاً: إننا في الجامعات الغربية، أو في الغرب عامة تثير اهتمامنا النصوص الكلاسيكية العربية، أو الأدب العربي القديم، فضلاً عن الاهتمام بالتاريخ، ولاسيما الإشكالي منه. وهذا ما جعلني أتتبع بعض الرسائل التي تشرف عليها بعض الأكاديميات الغربية، التي تحتوي على كراسي لدراسة اللغة العربية والدراسات الشرق أوسطية، حيث وجدت أن معظم تلك الدراسات تكاد تكون عالقة في قراءة المرجعيات الثقافية لقيم الطائفية، حيث تنشط دراسات حول الشيعة والسنة، وغيرها، كما دراسات في الحقل الصوفي، والشعر الكلاسيكي، أو الفلسفة الإسلامية، والنثر العربي القديم، وهي تكاد تستهلك معظم تلك الرسائل والبحوث، فلا توجد عناية حقيقية بمنجز الأدب العرب المعاصر، إلا قلة من الباحثين، وكأن ثمة اختزالاً لا واعياً تجري ممارسته تجاه المنتج العربي الحديث، وإذا كان ثمة بعض الدراسات، فهي تبقى قليلة أو محدودة نسبياً، بغية اكتشاف هذا التجاهل أو القصور، وبناء على ذلك، فثمة حاجة ماسة لتتبع هذا الأمر، ضمن النطاق الإحصائي، ولكن الأهم التنقيب عن الأسباب الجوهرية التي تحول دون أن تتلقى النتاجات العربية المعاصرة هذا القدر من لدن الطلاب أو الباحثين، سواء أكانوا طلاباً غربيين، أم طلابا عرباً يدرسون في الجامعات الغربية، ولاسيما مع إحجام بعض المشرفين عن استثار الحماس تجاه هذه الآداب المعاصرة، وتوجيه طلابهم نحوها.
إن غياب مناخات الحرية ربما تخلق نوعاً من التبرير، ولكن هنالك الكثير من الآداب الأخرى، التي تنتمي إلى قطاعات مماثلة تم الاحتفاء بهم، ومن هنا أعتقد بأن التوجهات الغربية ما زالت عالقة في الترسبات الاستشراقية، وكأنها مسكونة بتكوين الشخصية العربية.
ولعل هذا ما يقودنا إلى السؤال عن سر هذا المكنون العميق لهذا التحيز تجاه النماذج الكلاسيكية، فهل ثمة نفور من مقاربة الأدب الحديث أو المعاصر من منطلق أنه لم يرتق إلى مستوى الآداب الكلاسيكية من ناحية فنية او موضوعية؟ أم أنه انعكاس لواقع الثقافة العربية، أو الواقع العربي الحضاري بعامة، كونه يتعالق بأحد أشكال انحطاط الوجود العربي في هذا الزمن؟ أم هو تقصير تتحمل مسؤوليته المؤسسة العربية باختلاف أشكالها سواء أكانت أكاديمية أم ثقافية؟ أم أن الأديب العربي، أو المثقف بعامة لم يتمكن من إنتاج نصوص أو أفكار ترق إلى مستوى الاهتمام من لدن هؤلاء الباحثين الغربيين أو المترجمين؟ وهذا ما ينسحب أيضاً على اهتمام الثقافات الأخرى بالآداب العربية.
ربما نحيل الأمر إلى الأزمة الحضارية في المقام الأول، وهي تتصل بتسربات الوعي الاستشراقي، الذي قارب إدوارد سعيد فيضاً من فيوضه، فعلى الرغم من كل الانتقادات التي وجهت له، وآخرها ما جاء في كتاب وائل حلاق بعنوان «قصور في الاستشراق»، فضلاً عن دراسات سابقة لجمع من الدارسين، بيد انه لا يمكن أن ننكر بأن ثمة قناعات تسكن الوعي الغربي تجاه بعض القضايا، وهي تسربات ثقافية انتقلت تاريخياً نتيجة التشكيلات أو السياقات التي نشأ فيها هذا الإنسان الغربي، فالثقافة نموذج حياتي يتأثر بالمرجعيات، وبقايا الخطابات، وبناء عليه، فإن المثقفين الغربيين ودوائرهم العلمية تخضع لتسربات تلك الخطابات وآثارها التي جعلت من الشخصية العربية أسيرة متخيل قوامه عصور الازدهار، وحين تنهض أي مقاربة معاصرة، فسنجد أن الصورة الماثلة للشخصية العربية في الوقت الراهن في الوعي الغربي، تبدو هي نتاج أزمة حضارية معاصرة، فضلاً عن نكوص نحو الخلف، وبناء عليه ستبقى العقلية الغربية مسكونة باجترار خطابات ألف ليلة وليلة، والشعر الجاهلي، والمتنبي، وأبي حيان التوحدي وابن عربي والحلاج وغيرهم الكثير، في حين أن أي أعمال عبقرية من لدن شعراء وروائيين عرب معاصرين، ستبقى مرهونة بهذا المزاج الاستشراقي. ولعل هذا ما يفسر أن جائزة نوبل معادية للنتاجات العربية المعاصرة، كون الأدب العربي لا يؤخذ على محمل الجد في الوعي الغربي، وكأن ثمة منظوراً شديد الارتياب تجاه مكانة الإبداع العربي، وقدرته على أن يكون حاملا لرسالة كونية او إنسانية. ولعل المتأمل في هذا الجانب ربما يسعى إلى إقامة نوع من المقارنات بين بعض الأسماء التي تحصل على عديد الجوائز من قطاعات هامشية من العالم، في حين يتجاهل نتاج ضخم من الكتابات المعاصرة، غير أن المقارنة ربما تكشف عن أن ثمة مقصدية واضحة في تهميش هذا الإنتاج، أو أن ثمة أمراً كامناً في لاوعي العقل الغربي، وهنا لا يمكن لنا أن ننكر شيئاً من الاحتفاءات ببعض الأعمال التي تترجم هنا وهناك، والتي في معظمها ينهض على بناء وشراكات فردية، ولكننا نبقى مرتهنين لهذا الانحراف عن قراءة المتلفظ الإبداعي العربي، بفعل نزعة ربما تبدو استشراقية، حيث لا يمكن للغرب الاحتفاء بالمنجز الحضاري العربي، وهنا لا يمكن أن نبرئ بالكلية هذا السلوك الغربي، قياساً على التراجع الحضاري الذي تعاني منه القطاعات العربية على أكثر من مستوى، سواء أكان اقتصادياً أم اجتماعياً أم ثقافياً حضارياً.
إن غياب مناخات الحرية ربما تخلق نوعاً من التبرير، ولكن هنالك الكثير من الآداب الأخرى، التي تنتمي إلى قطاعات مماثلة تم الاحتفاء بهم، ومن هنا أعتقد بأن التوجهات الغربية ما زالت عالقة في الترسبات الاستشراقية، وكأنها مسكونة بتكوين الشخصية العربية، التي تجمدت في نطاقات تاريخية، وكأنها غير قادرة على إنتاج إبداع حقيقي، فلا جرم أن تحتفي الدراسات الغربية فقط بمنتج العقل العربي الألمعي، الذي صاحب مرحلة الازدهار الحضاري للأدب العربي القديم، في حين لا يمكن تجاوز هذه الحضور في الوقت الراهن، وهنا نلحظ أنّ ثقل التاريخ يبدو عميقاً، فكم ينبغي أن تمضي من قرون كي ينظر إلى الأدب العربي في زمننا هذا، على أنه يمثل تجربة خاصة لنضالات المثقف العربي وعقله؟ مع سعي إلى توصيف مرحلة من مراحله الأكثر جدلية في التأريخ، حيث تناوشته قوى الاستعمار والنخب الوطنية التي نتجت بفعل الاستعمار، وما أفرزته من فساد، وما أنبثق بعد ذلك من ثورات مضادة على ما يمكن أن ننعته بالربيع العربي المجهض!
كاتب أردني فلسطيني
لماذا نكتب؟ هل نكتب ليعترف بنا الغير او من اجل تحقيق الربح؟ ما لم تكن الكتابة تعبيرا عن حاجة شعورية جارفة لمعالجة قضية تهم جموع الناس ، ثم تحدث تجديدا ملموسا في فن الكتابة او تغييرا في سلوكيات المجتمع. عندئن فقط قد يتولد احساس الفضول عند الآخر.