ثمة حلم يراود قليلا أو كثيرا منا ومن الأوروبيين، كلما تعلق الأمر بالأدب تحديدا: ألا يمكن أن يكون هناك أدب متوسطي أو شعر متوسطي تتجاوب فيه لغات البحر الأبيض المتوسط، تلك التي وسمتها العربية بميسمها مثل، الإسبانية والبرتغالية والإيطالية والفرنسية؟ وإذا لم يكن، فما الذي يحول دون إيجاده؟ ولكن بأي أدوات، وعلى أي رهانات؟ بل هل مهدت الآداب المتوسطية قديمها وحديثها السبيل لبعث «متخيل» متوسطي يمكن أن تتولد منه صورة هذا الأدب المنشود في تأصل وتفرع؟
أسئلة شائكة صعبة، وإجابة أصعب. وقد يكون الأمر نوعا من «مراودة المستحيل»؛ وهناك اليوم بعد «طوفان فلسطين» وهذه «الإبادة» التي تتوسع لتشمل لبنان، والتعصب لإسرائيل والصهيونية، على الرغم من الجرائم اليومية البشعة التي يرتكبها جيش الاحتلال والمستوطنون، في غزة والضفة وبيروت؛ ما قد يحول الحلم إلى كابوس. وأجدني وأنا أعود إلى طرح هذه المسألة، بقدر من التفاؤل الحذر؛ كما لو أنني أجوس غابة حلم عصي، في دروب لا تفضي إلى أي مكان، وأستشعر هذا التيه يترسم آثار خطواتي، كلما أوغلت في الطريق المسدود (الردْبُ) بين أدبنا العربي المترجم، وما يتلاحق منه بالفرنسية، وإكراهات الترجمة التي تفقدنا أحيانا طعم العربية اللذيذ. على أن احتفاء الأوروبيين بأدبنا المكتوب بلغاتهم (الفرنسية خاصة) وهو حقهم؛ ينبغي أن لا يحجب عنا احتفاء بعضهم بثقافات المتوسط عامة بما فيها العربية؛ ورغبتهم في إعادة مد الجسور التي يمكن أن تمتد بين ضفتي المتوسط؛ ونقصد تلك التي كانت بين العرب في صقلية والأندلس خاصة.
وهو ما نلاحظه في مهرجانات وملتقيات غير قليلة تنعقد هنا أو هناك؛ في شمال المتوسط أو جنوبه، في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وتونس والمغرب والجزائر؛ ولعل أبرزها مهرجان»أصوات المتوسط» الذي ينعقد بسيت sète جنوب فرنسا؛ ويحضره شعراء من شتى بلدان العالم، وتحديدا من العالم العربي. وهو يصدر مختارات من شعرهم، في ترجمة مزدوجة؛ وقد شاركت شخصيا في أكثر من دورة من دوراته، وكان العرب يمثلون فيه ثلث الشعراء، بل في البرتغال أيضا وهو بلد أطلسي، ولكن كتابه وشعراءه وفنانيه يقولون إن ثقافتهم ثقافة متوسطية؛ وأظنها كذلك إذ ترجمت لبعضهم، واكتشفت هذه السمة في نصوصهم.
ومع ذلك فإن إعادة قراءة تاريخ المتوسط، توقفنا على أن هذا الماءَ المِلْحَ الذي يصل بين الضفتين؛ هو شيء آخر غير سفر رحلات أوليس، إنه باختصار المكان الذي يمكن أن نتعهد فيه مستقبلنا جميعا، على نحو ما تعهده ابن قرطاج «طيرنسيوس» الكاتب المسرحي القائل: «أنا إنسان، ولا شيء مما هو إنساني، بغريب عني».
والشعر العربي مثلا القديم خاصة، والحديث وإن في نماذج قد تكون قليلة، في شرق البلاد العربية وغربها، تجربة إنسانية كونية، لها من الميزات التي تجعله مخصوصا بخصائص حضارة العرب، مطبوعا بطبائع بيئتهم، ولطائف لغتهم. وهذا التفرد هو الذي دفع المستشرقين إلى ترجمة الشعر العربي القديم، ونقله أحيانا في أوزانه العربية نفسها؛ على نحو ما فعل المستشرق الشاعر فريديريش ريكرت؛ وكان لترجمته وقع غريب على أذن القارئ الألماني، وهو يكتشف عالما شعريا غريبا عنه، وفي أوزان لم يعهدها؛ والوزن العربي العروضي كمي، في حين أن الوزن في لغات أوروبية مثل الألمانية نبري (كيفي).
ومثال ذلك أيضا كتاب روجر ألن «مقدمة للأدب العربي» وهو موجه إلى طائفة من القراء الأجانب الناطقين بالإنكليزية في مطلع القرن الحادي والعشرين، وليس الناطقين بالعربية؛ وهو يتنزل في حيز الأدب العالمي المقارن. أما النعت «عربي»، فهو يفصح، كما يقول، عن اللغة التي صيغت بها المادة، ولكن هذا المصطلح يحوي دلالة مزدوجة إذ يشير إلى الناس أي العرب، من جهة وإلى العلاقة بين العالمين: العربي الإسلامي والغرب، من جهة أخرى. وهي في معظم هذه المرحلة المتخيرة من القرن السادس للميلاد إلى الحاضر، علاقة مواجهة مستمرة غالبا؛ ينزع فيها كل طرف إلى نوع من التعتيم على «بعض الحقائق المؤسفة للطرفين كليهما». ومثال ذلك أننا إذا نظرنا إلى الصليبيين وغزو إسبانيا مجددا، فسقوط غرناطة عام 1492، نجد أن الحدثين عدا من المراحل المجيدة في تاريخ أوروبا الغربية.
ولكنهما خارج هذا السياق، يكتسبان معنى مختلفا تماما، إذ هما اللذان يمهدان السبيل للفصل لطرح القضايا الأدبية المستجدة في سياقها البيئي واللغوي والتاريخي، وأهمها قضية الأجناس الأدبية في اللغة العربية. وثمة أكثر من مثال على صورة الشعر العربي القديم مترجما إلى أكثر من لغة أوروبية، مما يبين أنها صورة قديمة في المشهد العالمي والأوروبي تحديدا؛ وليست حديثة الميلاد كما قد يقع في الظن؛ ناهيك عن أثر الشعر العربي الأندلسي في الشعر الأوروبي في القرون الوسطى سواء في أبنيته وإيقاعاته أو في أغراضه وموضوعاته، وبخاصة العذري منه (العفيف) أو»الكورتيزيا» الغربية ( شعر الغزل وما يتميز به من رقة ولطف وأدب)؛ مما يحتاج إلى وقفة غير هذه. وكان جون كلود فادي، قد لاحظ أن النسيب العربي ظهر قبل «الكورتيزيا» بخمسة قرون، دون أن يخفي حيرته ما إذا كان الأمر يتعلق بتواصل أو بتقليد أو بتطور مستقل. وحاصل رأيه أن الإيقاع الشعري هو الجامع بين شعر «التروبادور» وقرينه العربي. على أن دوني دو روجمون يقر بالتأثير العربي الأندلسي شأنه شأن سيسموندي، ويؤكد أن الحب العذري هو الذي ذاع في جنوب فرنسا، وسُمي «كورتوا»، ثم ترحل إلى الشمال، وظهر في قصة «تريستان وإيزوت».
وهذا موضوع كان عبد الواحد لؤلؤة قد فصل فيه القول، وبين استئناسا بمصادر غربية أن الحب «الصحيح» لا علاقة له بالزواج، وأن هناك ديانة يمكن أن نسميها «ديانة الحب» ظهرت من حيث هي منافس للديانة الحق، بتأثير من عرب الأندلس. وهذا «الحب العفيف» لا يمكن فهمه، من خلال «أوفيد» الذي لا يرى في الحب ما يفضي إلى الرفعة والنبل؛ وإنما من خلال الموشحات والأزجال الأندلسية، ومدونة الحب مثل «طوق الحمامة» الذي كتبه ابن حزم عام 1022، وكتاب «الزهرة» الذي كتبه ابن داود عام 890، و»رسالة في العشق» لابن سينا.
ومثال هذه المصنفات أيضا الأنطولوجيا الصادرة عن دار غاليمار ذائعة الصيت، عام 2013 والموسومة بـ»شعراء البحر الأبيض المتوسط»؛ فقد ضمت شعراء من كل البلدان العربية الواقعة على ضفة المتوسط. ولنا أن نقيس على ذلك سائر الأنطولوجيات الصادرة بالفرنسية، لنتبين كيف تتكرر فيها الأسماء نفسها؛ وإن بنسب متفاوتة؛ وهي حسب تاريخ صدورها لعبد القادر الجنابي وعبد اللطيف اللعبي وجون أوريزيت وسميرة نقروش. وإذا كان بعضها قد جمع بين الشعر باللسان الفرنسي والشعر باللسان العربي؛ فإن أكثرها لم يخص إلا الشعر المكتوب بالفرنسية. وكان الشاعر الفرنسي جون أوريزيت أمينا في أنطولوجيته إذ اعتبر الشعر المغاربي باللسان الفرنسي جزءا لا يتجزأ من تاريخ الشعر الفرنسي.
لكن لنتذكر عبارة الطاهر جعوت: «أعتقد أن من نسميه كاتبا جزائريا هو الكاتب الذي يحمل الجنسية الجزائرية، ولا ينظر إلى بيئته وإلى العالم، إلا من منظور جزائري، يغني الجزائر، ويدرجها في سياق القيم العالمية».
ومهما يكن فإن الخبراء العرب أقروا في اجتماعهم باليونسكو عام 1969 بأن هذه الآداب المكتوبة بلغات أجنبية، جزء من الثقافة العربية المعاصرة. وهذا مبحث قائم بذاته، وله أهلوه في جامعاتنا وجامعات أوروبا. على أنه لا يفوتني، أن أشير إلى أن هذا «التصنيف»، وإن تحاشيت أن أنعته بـ»المتهافت» يحتاج إلى قدر غير يسير من التأني وحسن التعليل؛ خاصة أن أصحابه لا يشيرون إلى أن الأدب العربي الحديث أي المكتوب بالعربية من شعر ورواية، يكاد يكون مهمشا في المشهد الأوروبي؛ إن لم يكن «مهملا» أو من «المسكوت عنه». وربما يرجع ذلك إلى المشكل السياسي الأخلاقي الذي تثيره الحقبة الاستعمارية، أو ما يسمى «الشرخ الاستعماري»، وما يستتبعه من امتناع عن الاعتراف، بواقع لا يزال يحول دون التفكير بجلاء ونفاذ بصيرة، ودون تحيز؛ في «تركات» الاستعمار. وهو ما قد يفسر انصراف الفرنسيين مثلا أكثر إلى التعريف بالأدب المغاربي المكتوب بلغتهم؛ وما ينطوي عليه ذلك من نوع من «التواطؤ» الخفي بين الماضي الاستعماري والحاضر؛ أو افتقاد القدرة على التحرر من التبسيطية المزدوجة: مقاومة الاستعمار و»علم المقدسات» وما ينجم عن ذلك من اعتبار تلك الحقبة جزءا من التاريخ الوطني، أو فصل هذا التاريخ عن تاريخ الاستعمار؛ أو نشر «سياسة الذاكرة» وإضفاء حكم قيمة إيجابيا على تلك الحقبة؛ بل الاعتراف بـ»جميل» كل ما ساهم في استعمار بلدان المغرب العربي.
٭كاتب تونسي