من الكتب الجيدة، التي ترجمت في إطار مشروع كلمة الإماراتي لترجمة الأدب والفكر الأجنبيين، إلى اللغة العربية، ونشر منذ عدة سنوات، كتاب: أدباء أمام المحاكم، الذي أعده الألماني: يورغ، ويحكي عن عبر أربعة قرون، أو الأدب الذي قاد أصحابه لنهايات مؤسفة، بسبب ما احتواه من مواد اعتبرت في وقتها، مواد غير قابلة للتداول وسط الناس.
ولأن الأدب في تلك الفترة المبكرة، وحتى عهد قريب في القرن العشرين، قبل ظهور التكنولوجيا الصادمة، ووسائل الترفيه الغزيرة المتعددة، كان شعبيا بدرجة كبيرة، فان حظر الكتب كان في نظر من يحظرها، أمرا شديد الأهمية، وحيويا بدرجة كبيرة، ولا يهم ان قامت الدنيا أو قعدت لإلغاء الحظر، لانه لن يلغى.
كتاب المحاكم هذا احتوى على قصص كثيرة، ونماذج لأدباء تمردت موادهم الإبداعية على مواد عصرهم المعتادة، وكانت أغلب تلك المحظورات، كما هي في كل عهد، إما سياسية تتعلق بانظمة الحكم السائدة آنذاك، وما يمكن ان يزعجها، وإما دينية تختص بانتقاد الكنيسة المسيطرة، أو التحريض على التمرد على سيطرتها، ويأتي موضوع الحظر بسبب مواد الجنس في مرتبة أقل، إلا ان كان الأمر فوضويا وشرسا في تناوله، كما حدث في رواية: يوسفينة موتسنباخر، وهي رواية مشهورة، تحكي قصة فتاة ليل من فينا وهي تمارس مهنتها بكل إخلاص، بتفاصيل لا يمكن تركها تتحاوم بين الناس وتدخل البيوت، وتشد الأذهان للانحراف والمرض، كما جاء في حيثيات منعها، وقد نسبت تلك الرواية للكاتب الألماني فيلكس سالتن، المعروف في ذلك الوقت، إلا انه لم يعترف صراحة بتأليفها، وترك الأمر افتراضيا مع عدم ظهور مؤلف آخر. وظلت الرواية تنجح في الخفاء، إلى هذا اليوم، ولدرجة ان ورثة سالتن رفعوا دعاوى في المحاكم الألمانية، مطالبين دور النشر المتعددة، بدفع حقوقهم عن الرواية، ولم تنجح دعاواهم بالطبع، لان لا شيء يثبت كتابة سالتن لها، كما ان لا شيء ينفي عدم كتابته.
مسألة منع الكتب وحظر تداولها بين الناس، إذن ليست اختراعا حديثا، ابتكر في هذا الزمان، وانما أحد الاختراعات الهامة في كل الأزمنة، للحد من النشاط المعارض سواء أكان ذلك فكريا أو سياسيا، لأي جهة تملك صلاحية ان تتخذ إجراءات ما، وتتخذ إجراءات أخرى لحماية ما أصدرته، والعالم يكرر نفسه دائما في كل زمان، وما يكون ممنوعا في وقت ما، يكون مسموحا به في وقت آخر، والأدب نتاج بشري يتحمل تقلب المزاج والإيمان بمحتواه أو النفور منه، ولذلك نجد أعمالا كثيرة، تم حجبها في زمن إصدارها، ومنعت من دخول أماكن كثيرة، وأصبحت بعد ذلك ليس مسموحا بتداولها في تلك الأماكن فقط، بل تسمى تحفا وجواهر، ومن عيون الأدب، مثل رواية عوليس لجيمس جويس التي ما كان يسمح بتداولها أمريكيا في بداية صدورها، بحجة انها رواية منحرفة، وتوجد أعمال كثيرة مضت في هذا السياق.
كانت المسيحية نفسها في زمن ما محظور انتشارها، وذلك لتهديدها القياصرة في اعتقاداتهم ووسائل حكمهم، ثم حين اعترف بها بعد ذلك، أصبح أهلها هم السلطة التي تطارد خصوم الأمس، بعد ان أصبحوا خارج السلطة، وهكذا.
ودائما ما يشهر ثمة سيف في وجه كل من يعارض لائحة سارية المفعول، ولها عشاقها المسيطرون، انه سلاح الخروج عن المألوف، أو محاولة تقويضه.
لو طبقنا أمر الحظر ورفع الحظر عربيا لعثرنا على أعمال كثيرة، ما كان مسموحا حتى الهمس بعناوينها قبل ما يعرف بثورات الربيع العربي. هي أعمال اهتمت بالسياسة، وتحدثت عن سلطة الديكتاتوريات وما يمكن ان تفعله في الشعوب المغلوبة. هناك أعمال كتابية، إما شعرا أو نثرا، هناك أعمال فنية، إما أفلاما أو دراما تلفزيونية، وربما أغنيات أيضا تنبهت للظلم، وانتقدته ملحنا، ولكن بعد زوال الديكتاتوريات، ظهرت تلك الأعمال معززة مكرمة، وشيدت لها المنابر وفتحت صفحات الثقافة لاحتوائها، وسميت: أعمالا تخاطب الوجدان القومي. وبالرغم من ان معظم ثورات الربيع العربي انتهت بخيبات وانكسارات لا حصر لها، إلا ان مناخ تذوق الحرية، وتذوق حكاياتها الذي ما زال سائدا هنا وهناك، يمكن ان يكون تعويضا شبه ملائم عن تلك الخيبات والانكسارات، وشلالات الدم، حين ينتجها من حارب أصلا وثار لأجل العدالة، وإيقاف انتاج الدم في بلاده.
كتاب المنع: أدباء أمام المحاكم، يحتوي أيضا على قصص حظر لم تكن المحظورات التقليدية، مسؤولة عن إشعالها. هناك قصص تنتمي لما يسمى بإساءة الأدب، في حوارات المسرح أو الحوارات المصاحبة للسرد الروائي، وهي استخدام لغة غير محتشمة، حتى لو لم يكن الجنس محورا، وهذا البند بالذات أراه ملائما لاستخدامه في تنقية شوائب الكتابة، حتى في عصرنا هذا، فقد دخلت إلى اللغة الأدبية المفترض انها لغة راقية، تحاول ان تجد طريقا إلى ذهن المتلقي، كثير من العبارات الشوارعية، المستخدمة في الأزقة والحانات، وبات كثير من القراء يستحون من اقتناء كتب بها شيء من تلك العبارات.
وقد علق بعض كتاب المقالات الواردة في الكتاب على عدد من حوادث المنع، واصفين إياها بالتناقض، أي ان الكتاب يحظر لأي سبب كان، بينما هناك كتاب آخر، شبيه به أو توأم له في الفكرة والمعالجة، يترك طليقا، مما يبين تدخل المزاج والخصومات الشخصية في الأمر، وطبعا هذا أمر ليس بمستبعد أبدا في أي زمان ومكان.
في النهاية، لقد كنت دائما من الداعين إلى تفعيل الرقيب الشخصي في الكتابة، أي ان يقوم كل كاتب بتنشيط ما يحمله من موروث تقليدي محتشم داخله، وما يكنه من حب لوطنه ومجتمعه، وينتج لنا كتبا أشبه بالرغيف أو الحلوى، لا تدخلها البيوت وانت تتلفت أو تخبئها في قاع كيس أو حقيبة. بمعنى ان الكتاب يصبح صديقا للأسرة كلها، يقرأه من يقرأه، ولا يقرأه شخص واحد فقط.
٭ كاتب سوداني
أمير تاج السر