الأدب خارج توجهاته الجمالية

حجم الخط
0

ثمة سرّ في الأدب غير توجهاته الجمالية التي تنبثق منه، وتصنع مادته الأساسية للمقبلين عليه. السر في أن تخلص لعملية التدوين والتأليف والبوح، وتسخر طاقتك له كونه معطاء، إن قلت إنه سبب وجيه ليبقى الكاتب على قيد الحياة، فلن تصل فكرتي لغير الكُتّاب، لكن هذه هي الحقيقة بحذافيرها.
لطالما كان الأدب الوسيط الجمالي والمعرفي والإنساني بين الشعوب، يلعب دورا عظيما في محاكاة الحياة، يلمسه القرّاء قبل غيرهم، ويدرك الأدباء قوته. بالنسبة لي يبقى الأدب الأبقى والأنقى مهما حوصر الشخص بهالات الضوء بسبب مهنته، يبقى الأقوى مهما عاش في الظل بعيدا عن أي ضوء مُسلّط عليه.
بدأ شفغي بالكتابة منذ نعومة أظفاري، قبل أن أعشق اعتلاء خشبة المسرح، وإلقاء الشعر، وقبل بلوغ بلاتوهات التلفزيون، وفي الحقيقة الأدب هو الذي قادني إلى كل العوالم التي تتلألأ تحت الثريات المضيئة، لم أفكّر أبداً في الشهرة بقدر ما فكرت بمنصّة أدبية أثريها بأفكاري، وقد تحقق لي ذلك بعد كثير من المثابرة والاجتهاد.
استطاعت مواقع التواصل الإجتماعي صنع خريطة جديدة للأشكال الأدبية، فإذا رصدنا جماليات الكتابة والأدب، من خلال منابر التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك، الذي أصبح منصة فسيحة لكتابة نصوص أدبية، مثلما فعل الشاعر زكريا محمد مع مجموعته «الكشتبان» على سبيل المثال لا الحصر، إذ هناك كتّاب وشعراء يضيق المقام بذكرهم، يكتبون يوميا على فيسبوك مقاطع نثرية أو شعرية من نصوصهم، وهذا دليل على تغيرات لامست عروش الأدب، إن صح التعبير، وكأن ما حدث انتقال الأدب من «عجرفة « التعالي إلى المعيشي اليومي، والتفاصيل البسيطة لحياة الناس.
شخصيا عشت هذه التجربة مع انستغرام، وقد رويت تجربتي المختلفة، كوني اتخذت صفحتي، منصة لنشر ومضات شعرية، وطبعا هناك رواد الشعر وكل أشكل التعبير اللغوي، كلٌّ يختار المنصة التي لم تعد فقط نافذة على متابعي الأدب، بل محفِّزا يوميا على الابتكار والكتابة، وهذا شيء ربما كنّا نفتقده سابقا. لكن إن كان رولان بارت كتب عن موت المؤلف، فإن ما نلاحظه في هذا الزمن الإلكتروني المفتوح هو موت الناقد، وتسهيل السرقات الفكرية والأدبية. أما مهمة الرقيب الجديد على هذه المواقع فهي تعتمد على حجب منشورات سياسية أو دينية في الغالب، وفق تقارير ترفع للتلك المنصات. هذا الفضاء المفتوح له فوائده ومساوئه أيضا، لقد تسبب في عشوائية كبيرة تضم الكثير من المكتوب، لكن القليل من الجيد الذي يستحق القراءة والتشجيع، وهنا أخفقت مواقع التواصل الاجتماعي في إنقاذ الأدب الحقيقي من موج هائج يضم الكثير من المحاولات المبتدئة. انحدرت اللغة من مقاماتها العالية، إلى مواضع بسيطة تجاري اللغة اليومية للمتابعين، تكفي أحيانا بعض القافية المفبركة لتوهم المتابع بأن ما هو مكتوب شعر، كما يكفي صوت جميل مُرافَق بموسيقى هادئة وهو يقرأ نصا أقل من عادي، ليجذب ملايين المتابعين، في ما تظل النصوص الجيدة بعيدة عن كل هذا الضجيج.
هناك إذن تقلُّصٌ ملحوظ في جماليات الأدب، وتراجعٌ للأدباء الذين عجزوا عن مجاراة سرعة مواقع التواصل الاجتماعي، كما نسجل اختفاء بعض الأقلام الجيدة من شدّة صدمتها أمام هذا السيْل الإلكتروني، الذي جرفها بعيدا عن شطآن القراءة والمتابعة، بسبب تسونامي ما يملأ المشهد الأدبي حتى لم تعد الرؤية واضحة لفرز الجيد من الضّحل.
نحن أمام جيل بأكمله يتحكّم في إيقاع الواقع الأدبي، لكنّ كأنّ طاقته تجُرُّ النص المكتوب إلى حيث الضوء فقط، ولا يهمه إن كان هذا النّص في مقام الجيد بكل جمالياته أم لا. وهنا استحضر مقولة إينشتاين التي أحبها كثيرا «ليس المهم أن تكون مشهورا، بل المهم أن تكون ذا قيمة» وهنا يُطرح السؤال الخطير من الذي يعرف «القيمة» في غياب النقد؟ لقد خرج الأدب إلى مساحات استُسهِلت فيها الكتابة، وأعتقد أن هذا الأمر خطير على جماليات الأدب ورُقيِّه، إذ أصبح مرتبطا حصرا بمدى وعي الكاتب وشعوره بالمسؤولية تجاه نفسه، وتجاه قارئه واحترام نصه. بالتأكيد كشفت لنا هذه الشبكة الإلكترونية الغنية بمواقع التواصل عن إشراقات جميلة، عن أقلام تجاوزت شتى الحدود الفاصلة بين الدول العربية، كما ذلّلت أغلب صعاب العبور، التي واجهت الكتاب في زمن كورونا، وأوصلت النص المطلوب إلى فضاءات منسية غابت المكتبات عن مكوناتها.

استطاعت مواقع التواصل الإجتماعي صنع خريطة جديدة للأشكال الأدبية، فإذا رصدنا جماليات الكتابة والأدب، من خلال منابر التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك، الذي أصبح منصة فسيحة لكتابة نصوص أدبية.

نعم هناك من ينوّه بالنصوص الجميلة، ينشر اقتباساته من قراءاته ويروّج للأدب الجيد، كما أفعل أنا شخصيا دائما، لكن بالمقابل أعتقد أنه يجب التنويه بالنصوص الضعيفة، بعيدا عن المجاملات. ربّما لست ضليعة في هذا الأمر، لإبراز مواضع القبح في النصوص المطروحة، لكن على أحدهم أن يبدأ المبادرة خارج دائرة المعارف والأصدقاء التي تحيط أي «كاتب بسيط» بهالة من المجاملات الزائفة، قد توصله لنجومية على مواقع التواصل الاجتماعي لكنّها لا تضيف شيئا للقارئ، بقدر ما تسيء إليه، وتعثِّر تطوره، وترَسِّخ للرداءة بكل تأكيد. في خضمّ هذا الماراثون المرهق يوميا على مواقع التواصل الاجتماعي، نصاب بـ»إرهاق جمالي» إن صح وصفه بذلك، إرهاق يمنعنا من مواصلة عملية البحث، لإيجاد نصوص حقيقية بمواصفات جمالية عالية.
من هذا الجانب بالذات أعتقد أنّ خللا ما أصاب الذائقة العامة، كون «صناعة الكاتب النجم» تسقط «النّص» من حساباتها، وهذا أسوأ مستويات الأسى التي نعانيها. ربما في أزمنة غابرة أيضا أساءت معطيات الزمن لنصوص عظيمة، كما رفعت أخرى إلى قمم الاهتمام الإعلامي. يحضرني هنا الشاعر الراحل محمود درويش، الذي اشتهر في زمن صعود اليسار، وأناشيد مارسيل خليفة، والقضية الفلسطينية التي ضخ كل شعره في شرايينها، إلاّ أن درويش «أحنّ إلى خبز أمي» غير درويش «الجداريات». لقد كسب جماهيرية عاصفة لكنّها غطّت على شعراء آخرين ممن عاصروه ومن جاؤوا بعده، كأنه صنع سقفا لا يمكن للآخرين تجاوزه، لكن بعد وفاته، فتح البعض مفكّرة الشعر التي حُبِكت في ظلاله.
محزن أن توضع مقاييس فردية لقياس جماليات النثر والشعر، وفق قضية معينة، أو حدث ما، أو كاريزما لشخص في حدّ ذاته، إذ كلما حوصِر النص أو كاتبه بقضبان وهمية كهذه انطفأ حتى وإن برز اسمه، أو صعب عليه شق طريقه نحو أفق أوسع لتحقيق نسبة مقروئية أفضل. وربما لهذا السبب اختلف درويش كمجرد نموذج معروف أدرجه هنا- وتجاوز القوالب التي لم تحقق لغيره الانتشار نفسه، ولم تمنحهم البريق نفسه. لقد حلّق درويش بعيدا بأساليب جديدة انبثقت من تطور لغته، وبأطروحات إنسانية شملت نظرته للعالم مع تقدمه في العمر.
خلاصة القول – وإن كان الموضوع شائكا للبعض – هو أن الكاتب يقف في مفترق طريق حساس ومخيف أمام المزاج العام للمتابعين والقراء، فإن كان هدف الكاتب الانتشار لجأ لسهولة العبارة وثرائها بالتجربة الإنسانية، وإذا كان هدفه كتابة نص جيد وبلوغ أقاصي الإشباع الذاتي، فعليه أن يختار الإتقان لبناء نتاجه الأدبي، مستخدما عتاد لغته ومخيلته ومخزون قراءاته، متسلّحا بشجاعته لسلك طريق النّقد الصعب، ولذي يختلف تماما عن منصات التواصل الاجتماعي التي قد تستنفد طاقته دون تحقيق مبتغاه. وأعتقد أنّه من الذكاء أن يعرف الكاتب أو الشاعر متى يطلّ من نوافذ السوشيال ميديا، ومتى يختلي بنفسه وإبداعه، ليحافظ على نفسه من التشتت والذوبان في الزّحام اليومي الذي يصنعه السطحيون ومستسهلو الكتابة.

شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية