في عام 1961، بحث عالم الأرصاد إدوارد لورينتز، في مشكلة التنبؤ بالطقس، فتوصل إلى أن التنبؤات الجوية، في غاية الصعوبة، لأن تحولات المنحنيات الجوية على حاسوبه آنئذ، على الرغم من صغرها لدرجة يمكن تشبيهها بخفقان جناح فراشة في الهواء، تؤثر بشكل كبير على هذه التنبؤات. فظهرت، بذلك، «نظرية الشواش» Theorie du chaos، التي تعتبر العشوائية والصدفة أسّ الظواهر الطبيعية؛ أي إن معظم، إن لم نقل كل الظواهر الطبيعية، قد تبدو نظامية في ظاهرها، إلا أنها، في واقع الأمر، تتبطن شروطا غير نظامية، الشيء الذي يجعلها مؤهلة للتحول باستمرار.
بعد ذلك، انتقلت هذه النظرية إلى مجموعة من العلوم الأخرى كالجيولوجيا والرياضيات، وعلم الأحياء والاقتصاد والهندسة، والفلسفة والسياسة والأدب… لقد آمن العلماء والمفكرون والفلاسفة بأن تدحرج الكرة، من قمة الجبل مثلا، لا يمكن التنبؤ بمآلها، ولا حتى المسار الذي يمكن أن تأخذه، نظرا لما يمكن أن تصادفه في طريقها وتدحرجها، من جزئيات صغيرة وُضعت بعشوائية كبيرة. هذا الأمر يعني، بالنسبة لهؤلاء، أن الهامش يؤثر بشكل كبير في المركز. فخفقان أجنحة الفراشات، كما ورد في الحكمة اليابانية، يحدث أعاصير في المحيط الهادي؛ الشيء الذي يعني أن للفراشة، على الرغم من ضعفها وهشاشتها، أثرا قويا في خلق الظواهر الكبرى، عكس ما كنا نعتقد ونتصور. وبذلك، قادت هذه المعطيات، أولئك المفكرين والفلاسفة إلى إنتاج «نظرية الشواش» التي لعبت دورا محوريا في فلسفات ما بعد الحداثة، إذ تبين بالملموس لهم، أن للجزئيات والهامش والعشوائية والفوضى، دورا كبيرا في تغيير مسار الحياة، ومصير البشرية جمعاء، كما وقع في الماضي، ويقع الآن. خذ مثلا، جائحة كورونا وتفاهة هذا الفيروس اللامرئي، الذي تسبب في كارثة إنسانية كبرى، ستغير تاريخ البشرية، في ما بعد كورونا، بشكل جذري لا محالة.
كارثة سمتها الكبرى، الفوضى في كل شيء، ما يدل على أن الإنسان كائن عاجز وضعيف أمام الطبيعة، وأن تاريخه هو تاريخ كوارث بلغة الفيزيائيين المنتسبين لنظرية الكارثة، وأن الصدفة بلغة الطبيعة، والمشيئة بلغة الدين، تلعب دورا أساسا في خلق المستقبل الذي يتأثر حتما بنظام الفوضى والشواش (الكاوس).
في مجال الأدب، يمكن القول إن تطور الظاهرة الأدبية، تاريخيا، كان السبب فيه أثرُ الفراشة هذا. فبعدما كان الشعر خطابا شفهيا، في البداية، سيتطور مع ظهور الكتابة، بل سيتغير وضعه، بعد ذلك بقرون، مع ظهور عصر الطباعة وانتشارها على نطاق واسع. وفي عصرنا الحالي، نرى كيف أن الأدب قفز قفزة كبرى، وتحول مساره بشكل لافت مع ظهور الرقمنة والتكنولوجيات الحديثة إيذانا بعصر جديد للأدب.
أثر الفراشة كان عاملا ملهما للشاعر الفلسطيني محمود درويش، من خلال نصه الموسوم بـ«أثر الفراشة» تفاعلا منه مع هذه النظرية الجديدة التي أصبحت تلهم الكتاب والأدباء. يقول محمود:
أثر الفراشة
أثر الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حتى يتضح السبيلُ
هو خفّةُ الأبديِّ في اليوميِّ
أشواقٌ إلى أعلى
وإشراقٌ جميلُ.
إن حضور «نظرية الشواش» في أدبنا العربي الراهن، بالنظر إلى جدة هذه النظرية، ارتبط بالتجديد الذي طرأ على هذا الأدب، بعد ثمانينيات القرن المنصرم، نظرا لتأثر مجموعة من الكتاب بهذه النظرية، بعد ذيوعها وانتشارها في أرجاء المعمورة. ومن أهم هذه الأساليب التجديدية الناجمة عن أثر هذه النظرية في الشعر مثلا، تركيز بعض الشعراء على الأسطر الأولى من العمل الشعري. وهي خاصية ركزت عليها الكاتبة والناقدة الرقمية الأبرز كاثرين هيلز في كتابها «قيد الفوضى» لأن هذه الأسطر، كما تقول، تؤثر بشكل كبير على مسار العمل ومآله.
من ضمن تجليات الشواش في أدبنا المعاصر كذلك، كون بعض الأعمال أصبحت تتصف بالتركيب والتعقيد في البناء، الشيء الذي يرجح صعوبة التنبؤ بالأبعاد والدلالات والمآلات التي سيأخذها هذا العمل أو ذاك.
أما في الأعمال السردية، فإننا أصبحنا نلاحظ أن بناء الأحداث أصبح يتحقق بشكل لا خطي، وهي خاصية من خصائص نظرية الشواش، ذلك أننا نعثر في بداية بعض القصص والروايات على حدث أو أحداث لا تبدو ذات أهمية، إلا أن الكاتب يجعل منها شرارة الأحداث المتعاقبة. من ضمن تجليات الشواش في أدبنا المعاصر كذلك، كون بعض الأعمال أصبحت تتصف بالتركيب والتعقيد في البناء، الشيء الذي يرجح صعوبة التنبؤ بالأبعاد والدلالات والمآلات التي سيأخذها هذا العمل أو ذاك. كما أن بعض الأعمال الأدبية، خصوصا في مجال الشعر، أضحت تركز على نقاط الجذب في النص، المتمثلة في الفراغات والبياضات بتعبير فولفغانغ إيزر، تلك التي تزج بمسار الدلالة في اتجاهات جديدة غير متوقعة.
في الأدب الرقمي الآن، ومع الإمكانات الهائلة التي أصبح الحاسوب/ التقنية يتيحها للكاتب والقارئ على حد سواء، أصبح لنظرية الشواش حضور قوي في النص التفاعلي أو المترابط. فالخطوط وأشكال الحروف والحركات المصاحبة والمؤثرات الصوتية وغيرها من التقنيات، تتحكم فيها، منذ البداية، نقرة صغيرة من الكاتب، قد تجعل النص يأخذ هذا الاتجاه دون الآخر، مع العلم أن البداية في «نظرية الشواش» كما تقول كاثرين هيلز، هي التي تتحكم في مآل الظاهرة. البداية، بجزئياتها البسيطة، تربك حسابات الكاتب والقارئ معا. إن الأدب الرقمي، يعتمد بالأساس على الكتابة الرقمية التي يتحكم فيها الوسيط الإلكتروني، أي الحاسوب، باعتباره مختبرا للنص، يقود الكاتب والقارئ إلى عالم افتراضي لا أحد يستطيع التنبؤ بعوالمه؛ فضلا عن أن هذا المختبر/الحاسوب، بالنظر إلى ما يتيحه من إغراءات للكاتب، يقود النص كذلك إلى المزيد من التعقيد والتركيب، عما كان عليه الوضع في السابق. ففي النص المترابط أو الرقمي أو التفاعلي… لا يمكن التنبؤ بالمآل الذي يمكن أن يأخذه المعنى ولا حتى شكل النص، بسبب التحولات اللامحدودة للأشكال التي تأخذها الحروف والجمل، خطيا ولا خطيا، لأنه ثمة جزيئات إلكترونية تحدد مسار معنى الجملة في اتجاه ما، في لحظة ما، أو في اتجاهات أخرى، في لحظات زمنية أخرى. وهذا مبحث آخر، من المؤكد أن الاشتغال فيه وعليه، من طرف المتخصصين، سينال حظه في المستقبل القريب.
شاعر وكاتب مغربي
شكرا للكاتب على مقالاته العصرية القيمة واسلوبه الراقي.
اعتز بشهادتكم سيدا . شكرا جزيلا
مقالة جميلة.
ولكن الترجمة الصحيحة لـ Theorie du chaos هي نظرية الفوضى