يدهش المرء حينما يزور إسبانيا لمشاهده ظاهرة بارزة أينما حلّ وارتحل. الظاهرة أدبية محضة. لكنها لتواترها أصبحت رمزاً وطنياً يحدد ملامح هذا الشعب الأوروبي الوطنية. تعود الظاهرة إلى سرفانتس بالتحديد. سرفانتس الميت الحي، توفي سنة 1616 لكنه بقي ماثلاً في تماثيله ونتاجه الحيّ إلى حدّ الآن.
في وسط مدريد نصب يرتفع قرابة عشرين متراً يتربع في أعلاه تمثال سرفانتس وهو ينظر إلى الأسفل. ماذا هناك؟ لا حاجة للسؤال! فقط، لو كان المرء على حدّ أدنى من الثقافة. مستوى الدراسة الثانوية على سبيل المثال فسيعرف، لأن كل من قرأ دون كيخوته «دون كيشوت» كما تلفظ بالإنكليزية، لا بد أن يربط بينها وبين الشخصيات المنحوتة على النصب، الذي يتربع في أعلاه سرفانتس محدقاً إلى العالم الذي خلقه في روايته.
ها هو دون كيخوته، جسد نحيل. قامة طويلة. مرتدياً درعاً حديدا ممتشقاً رمحا طويلا، مدججا بالسلاح، ممتطياً صهوة جواده الهزيل، الذي يكاد ينفق ضعفاً وهزالاً، حتى لأن تستطيع أن تحصي عدد أضلاعه البارزة من شدة الهزال، وإلى جانبه سانشا بانزا خادمه المطيع، البدين القصير، راكباً حماره السمين، وعيناه تلمعان تحلمان بالمجد الذي سيحققه سيده الفارس الهمام الذي برع في الهجوم على طواحين الهواء وأشباح الظلام، ظاناً إياها جيوشاً معتدية.
وإلى جانب هذين البطلين الرئيسين يزدحم نصب سرفانتس ليشمل كل الفلاحين والأمراء والعامة، الذين أتقن قلم سرفانتس خلقهم وإبداعهم. وإن ترك السائح مدريد وذهب إلى أي جهة شمالا إلى سانت أندير، شرقاً إلى برشلونة، جنوباً إلى الأندلس، أينما توجّه يرى دون كيخوته وإلى جانبه شانزا، يراهم على قمة الجبال، في الوديان، مفترقات الطرق، الفنادق، حارات المدن، ساحات القرى، داخل المدن، كما يجدهم في أي مكتبة عامة، مدرسة، على بطاقات المناسبات والأعياد.
لماذا يصر الإسبان أن يجعلوا من شخصية خيالية رسمت قبل خمسمئة سنة رمزا لهم؟ علماً بأن هذا الرمز لم يكن يمثّل أيّ قيمة إيجابية، اللهم إلا إذا اعتبرنا السخرية أمرا إيجابياً، لماذا إذن؟
الجواب بسيط جدا، ليس المهم أن يخلق المبدع أعمالا ذات قيمة إيجابية أو سلبية، المهم أن العمل الفني متقن، جاد حتى لو جلب ضحكة ساخرة، ذلك أن الأوروبيين يقدسون الإبداع في الأدب ويرفعونه إلى أعلى عليين.
إنهم يقسّمون جائزة نوبل بين أكثر من شخص واحد في كل المجالات: الفيزياء، الطب، الكيمياء، الاقتصاد، السلام، إلّا في الأدب، لم يقسموا جائزة الأدب إلى حد الآن، لم يعطوها إلّا إلى شخص واحد. نحن أيضا نعتز بالأدب ورجال الأدب، مثلما يفعل الإسبان، والأوروبيون، ولكننا نعبر عن هذا الاعتزاز بالإهمال، معظم أدبائنا ماتوا وهم مدقعون، مملقون، فقراء في الماضي والحاضر.
ابن الرومي أحد أهم شعراء التجديد في كل العصور، أبو حيان التوحيدي، أحد أعمق الكتاب في تاريخ العرب، الذي أحرق كتبه، ولم يستفد منها، أبو هلال العسكري فارس البلاغة، حافظ إبراهيم، الرصافي، الشابي، السياب، البياتي، القائمة تطول بلا أمل للنهاية. وكما أهملنا الشعراء أهملنا الكتاب، فقد ساومني سنة 1980 الرقيب السوري، أن أعمل مع النظام لكي ينشر روايتي عن السجون في العراق، وحينما رفضت، ختم الرواية بالمنع. نعم، أهملنا ما أبدعته قرائح الأجيال، أهملنا أبطالنا الأسطوريين العظام، أهملنا راكب الأمواج الأعظم في التاريخ «السندباد البحري»، الذي دوّخ البحار في رحلاته السبع الفريدة، والذي امتطى ظهر الحوت وطار مع «الرخ» فوق الجبال، حتى أصبح أشهر شخصية عالمية، يعرفها كل أطفال العالم، هذا البطل لا تجد له أي تمثال أو مجسمة أو صورة في مسقط رأسه في البصرة، أو بغداد، ولا تدل عليه أي إشارة، وكأنه جاء من فراغ وابتلعه الفراغ، عندنا مجسمة رائعة لكهرمانة وهي تصب الزيت على اللصوص الأربعين، وكاد ثوريو المسلخ الإسلامي أن ينسفوها، لولا أن استيقظ ضمير أحدهم، لكن لا تجد ما يذكرك بواحد من أهم صناع الخيال في العالم، علي بابا، ولا السكندري العظيم، لا أبطال الحريري، ولا أبطال الهمداني، ولن تجد ما يذكرك بسيف بن ذي يزن، الذي تصرف كـ»كريندايزر» وجال وصال مثله، لن تجد حمزة البهلوان، وحي بن يقظان! و..و..و إن استنطقت كل ذرة من تراب بغداد ستجدها تجسّد شخصية أسطورية لا مثيل لها. شخصياتنا الأدبية هي رموزنا القومية، هي هويتنا الإبداعية، وهي سمونا الفعلي، موجودة، حيّة، غنيّة في تأثيرها على من يعي ويفهم قيمتها خارج بلداننا، لكنها هينة لا قيمة لها عند حكامنا الجهلة. قرأنا عن باليه شهرزاد وسمعنا موسيقى سمفونية عنترة، وشاهدنا كيف اقتبسوا روبنسون كروزو من حي بن يقظان، وكيف حولوا السندباد إلى مسلسل أطفال، رأينا هذا الاهتمام عند غيرنا – في الماضي والحاضر- بأبطالنا، ورموزنا، ففي كل مدينة ولد أحد العباقرة العرب في إسبانيا، تجد عشرات التماثيل والنصب واللوحات، وسوف يستمرون بالاهتمام بهم ، أما نحن فسنستمر بتجاهلهم، لكن حسبنا أن نتفرج ونرى الصور، هذا حدنا، وهذا حدك يا موسى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا للنتيجة منتظرون.
٭ كاتب عراقي