حقق الروائي العراقي برهان الشاوي حضورا لافتا على الساحة الأدبية، كذلك فهو شاعر ومترجم وأكاديمي وسينمائي وإعلامي ومسرحي، أسس فرقة مسرحية مع عدد من الممثلين الأجانب، فأخرج لهم من 1991 وحتى 1995 عددا من المسرحيات. كما أخرج عددا من الأفلام الروائية والتسجيلية القصيرة، وكتب السيناريو والنقد السينمائي. غادر العراق عام 1978 ليستقر في ألمانيا منذ 1986. درس السينما في موسكو بين عامي 1980 و1986 والإعلام في ألمانيا، ثم التاريخ والعلوم السياسية في جامعة موسكو الدولية لعلوم الاجتماع في روسيا. إنه برهان الشاوي الأديب المتعدد المواهب الذي ما أن ينتهي من مجال حتى يبدأ من جديد في الإبداع ذاته، أو جنس آخر حتى لكأنه مسكون بالفن عموما. أصدر حتى الآن 36 كتابا بينها 12 رواية وسبع مجاميع شعرية وثمانية كتب فكرية، وتسعة كتب مترجمة. فكان معه هذا الحوار ..
■ من أين بدأت حكاية الحرف؟
□ حكايتي مع الحرف طويلة وقديمة بدأت مع مجلات الأطفال المصورة مثل «بساط الريح» و«سوبرمان»، وقصص ألف ليلة وليلة المبسطة التي كانت تنشرها مجلة «الهلال». ثم تطورت لقراءة كتب جبران والمنفلوطي، التي كان يأتي بها أخي الكبير الراحل فرج. فصرت أكتب خواطر إنشائية على غرارهما، بل كنت من التلاميذ المفضلين في مدرستي المتوسطة في مواضيع الإنشاء. كانت لديّ ذاكرة جيدة، لذا كنت أحفظ كلاسيكيات الشعر العربي كالمعلقات أو الجمهرات، وما زلت أحفظ الكثير من الشعر العربي الكلاسيكي إلى الآن. إلى أن بدأت بكتابة الشعر العامودي، ثم قصيدة التفعلية وصولًا إلى القصيدة الحرة. ثم توغلت أكثر في عالم القراءة والكتابة وأجناسها، لكنني كرّست جهدي في الشعر لعقود من الزمان، ثم جاءت اللغات الأجنبية، الروسية والألمانية، فترجمت عنهما، وهكذا إلى أن دخلت عالم الرواية بعد الخمسين!
■ أمام تعدد كتاباتك أي منها كانت معينا للآخر؟
□ كل هذ الأجناس تداخلت في دعم أي شكل أتوجه إليه، حتى لو كنت أكتب مقالا فنيا أو بحثًا فكريا، لكن كل هذه الأجناس والتجارب، ومنذ عقد من الزمان، تداخلت وامتزجت لتكون أساسا في كتابتي الروائية، مع أنني ما زلت أقبض على جمرة الشعر حتى في كتابتي السردية، فقد توجهت للرواية بروح الشاعر، أما من الناحية التقنية في السرد، فقد كانت جماليات اللغة السينمائية أساسي المتين. وشخصيا أعتقد أننا نتاج كل ما قرأناه وعشناه من تجارب حياتية وكتابية ومعرفية، ففي لحظة الكتابة تحضر كل هذه الأشياء في لاوعينا.
■ هناك رؤية تقول إن الروائي العراقي الذي هاجر انفتحت له الآفاق كثيرا، لذا فهو أكثر انتشارا؟ هل مقولة إنه ليس بالضرورة أن يكون أكثر إبداعًا صحيحة؟
□ هذا صحيح لحد ما، لكن ليس بالكامل، من حيث إن الانفتاح لا يعني الانتشار بالضرورة. قد يكون الانفتاح قد ساعد البعض على الخطو بجرأة لإزاحة التابوهات قليلا، وأثر إلى حد كبير على طريقة الكتابة، ناهيك من أن المكان واللغة والمجتمعات الجديدة وما تمنحه للكاتب من تجارب تؤثر في بنية نصه السردي وشخوص عالمه الروائي. لكن هذا لا يعني أبدًا أنه أفضل من الكاتب العراقي الذي لم يهاجر. ففي التجربة الروائية العربية في المهجر، ثمة كتابات رصينة وعالية المستوى، مثلما توجد كتابات هزيلة وضعيفة، وتتوسل الأجنبي وقناعاته بطريقة ساذجة وفجة، طمعا في الشهرة والانتشار، والعكس هو الصحيح فهناك روايات رصينة وعميقة لدى الكتّاب الذين لم يهاجروا مثلما توجد أكوام من الروايات الهابطة، لذا فالقيمة الإبداعية والأصالة لا علاقة لها بالبقاء في الوطن أو الهجرة إلى مجتمعات منفتوحة وحرة.
■ ثمة سجال وجدال عن الإصدارات العديدة للرواية على الساحة العراقية، نتيجته هجوم على كتّابها وموقعها على الساحة العربية.. هل ترى هذا مبررا، خاصة أن من يهاجم لم يقرأ غير نسبة قليلة جدا من النتاج العام؟
□ لا أعتقد أن هناك من قرأ كل هذه النتاجات الروائية التي تعدّت المئات، كي يطلق أحكاما هجومية قاطعة حول مستوى الرواية العراقية وموقعها عربيا. العكس هو الصحيح، من حيث إن للرواية العراقية مكانة محترمة بين نظيراتها العربيات. وشخصيًا لم أقرأ أي هجوم على الرواية العراقية، على العكس فقد التقيت بالعديد من الكتاب العرب، وكانوا يعربون عن إعجابهم بهذا الكاتب أو ذاك، أو بهذه الرواية أو تلك، بل أعرف أن في الجزائر مثلا توجد رسائل ماجستير ودكتوراه لبعض الروائيين والروائيات العراقيات. أما السجال حول كثرة النتاج الروائي فهو سجال عام على المستوى العربي، فنظرة بسيطة لجائزة كتارا مثلا، لاسيما في قسم الروايات غير المنشورة ستفاجأ بهذا الكم من الكتابات الروائية الذي يصل إلى أكثر من سبعمئة رواية غير منشورة، ناهيك من الروايات المنشورة التي تصل إلى المئات؟ وكذا في الروايات التي ترسل إلى لجان الجوائز العربية المختلفة، وهذا الأمر ليس مقتصرًا على العراق. لكن هذا لا يمنع من الاتفاق في أن هناك استسهالا في كتابة الرواية ونشرها عراقيا أو عربيا، وأن هناك الكثير من الإسفاف اللغوي والارتباك السردي، والسذاجة في بناء الأحداث والشخصيات، بل والسرقات لأحداث أو حوارات من روايات أخرى، واستنساخ حبكات، بل وشخصيات مأخوذة من روايات أخرى مع بعض الرتوش كي تبدو غير مسروقة.
إقامة الكاتب علاقات مع النقاد لغرض الكتابة عنه أو تجنب نقده سلبًا، نجده هنا وهناك في المشهد الثقافي العربي، بل حتى الأوروبي.
■ ما بعد سقوط النظام عام 2003 شهدنا انتشارا للأدب العراقي في الخارج. هل هذا الانتشار مرهون بالإبداع والتواجد الحقيقي؟ أم أنه فقاعة كما يقول البعض؟
□ انتشار الرواية العراقية بعد إسقاط النظام واحتلال العراق حقيقي. ربما قبل عام 2003 كان هناك حصار على الرواية العراقية مثلما كان الحصار على البلاد كلها، لذا من الطبيعي أن تنشر بعد ذلك نتيجة الانفتاح السياسي والاجتماعي الكبير الذي حصل، وهو ليس فقاعة أبدًا بدليل لا توجد جائزة عربية للرواية العربية، لا تجد فيها أسماء بعض الروائيين العراقيين الذي فاز بعضهم بجوائزها.
■ في رواياتك متعددة الأجزاء التي تحمل عنوانا أوليا.. المتاهات.. هل حقا تعد أول رواية عربية؟ وهل يمكن للمتلقّي العربي أن يلاحق رواية متعددة في زمن لم يعد راغبا في قراءة رواية من 500 صفحة؟
□ يعتقد بعض النقاد والباحثين المتابعين للسرد العربي أن «المتاهات» برواياتها التسع، التي تجاوزت 5000 صفحة هي أطول رواية عربية كتبت إلى الآن. أما سؤال عن إمكانية قراءة الرواية بهذا الطول، فيمكنني أن أطمئنك بأن من يبدأ بها يجد نفسه يلاحقها في أجزائها المتعددة، لأن «المتاهات» هي رواية واحدة تتداخل دوائرها وتستمر أحداثها في وحدة سردية متكاملة، تنتهي بآخر سطر في المتاهة التاسعة «متاهة العدم العظيم». ناهيك من أنها روايات يمكن قراءتها بشكل منفرد، لكن من يريد المتعة الحقيقة ومعرفة سيرة الشخصيات، وتتبع الأسئلة التي تدور حولها الأحداث والشخصيات، فيفضل أن يقرأها كلها بالتسلسل. وبالمناسبة يمكنني القول إن القارئ الحقيقي الذي يتذوق الفن الروائي لا يفكر بحجم الرواية أبدًا، إلا هؤلاء القرّاء الذين يبحثون في الروايات عن قضاء الوقت والمتعة السريعة، ناهيك من أن حجم الرواية لا يحدده الكاتب، وأنما المنطق الروائي نفسه.
■ ناقشت في أغلب رواياتك التابوهات الثلاثة. هل المشكلة في التابوهات نفسها؟ أم فهمنا لها؟
□ أعتقد أن المشكلة في التابوهات نفسها وما يقف خلفها من عقائد وشرائع وقوانين قامعة ومنظومات دينية وعقائدية أيديولوجية متعصبة، لأنها تحريمات يحذّر الاقتراب منها، أو البحث والتوغل فيها، ولا يكمن الأمر في فهمنا لها، إلا إذا عنينا بذلك الجهل المقدس. ولأن الروائيين هم في طليعة المثقفين، لذا فهم يمارسون دورهم التنويري في إضاءة العتمة المكلكلة على حياتنا بسبب هذه التابوهات من خلال السرد الروائي.
■ وهل تخلصت الرواية من ثوبها الحكائي المجرد، أم أن الحكاية لم تزل تلعب دوراً أساسياً ولو على حساب الفن؟
□ الأمر مرتبط بالأساليب وطرائق السرد التي لها علاقة بالتجربة الشخصية والإبداعية والفكرية لكل كاتب. شخصيا أميل للرواية المعرفية التي أجد أهم ممثل لها هو ميلان كونديرا. الرواية لم تعد رواية مشوقة لقضاء الوقت، وإنما عليها أن تحقق المتعة والمعرفة. الرواية خطاب حضاري تاريخي ومعرفي، ولم تعد حكاية مسلية. الحكاية هي العامود الفقري، بل والهيكل العظمي لأي عمل روائي، لكن الحكاية حكاية والرواية رواية، وهنا كثيرًا ما يتم الخلط النقدي والوهم الروائي، حين تصدر كتب تحمل تصنيف الرواية بينما هي مجرد حكايات مكتوبة أقرب للريبورتاجات الصحافية، وهذا أحد دوافع الهجوم على سيل الروايات المطبوعة، وأحد أشكال الاستسهال في الكتابة.
■ وهل على الكاتب أن يكون جيدا مع النقاد ويجذب صداقاتهم لكي تكون الكتابة عنه مستمرة؟
□ إقامة الكاتب علاقات مع النقاد لغرض الكتابة عنه أو تجنب نقده سلبًا، نجده هنا وهناك في المشهد الثقافي العربي، بل حتى الأوروبي. وهذا الأمر صار ممنهجًا ليس بإرادة شخصية وحسب، وأنما ممنهجة تنظمها دور النشر مع الصحافيين في الصفحات الثقافية والنقاد المتمرسين وأشباه النقاد. شخصيًا أعيش في عزلتي الإرادية المختارة، وعلاقاتي نادرة ومحدودة جدًا جدًا مع الأدباء بشكل عام. ويفاجئني أحيانا اتخاذ رواياتي موضوعا لدراسات عميقة، من قبل نقاد متخصصين، ومن ذوي الخبرة العالية في أساليب الخطاب السردي الروائي، أو أجدها موضوعا لأطاريح الدكتوراه ورسائل الماجستير أو البحوث. وبالتأكيد، ومن دون تواضع مزيف، يسعدني ذلك ويشرفني، حتى لو لم يكن يتطابق مع مفاهيمي أو ذائقتي الجمالية وخبرتي المعرفية بنصوصي.