تعد الكاتبة نهلة الجمزاوي من المثقفات العربيات المتميزات، خاصة أن إنتاجها الأدبي سمته التنوع، ما بين كتابة القصة والرواية، إضافة إلى الشعر والمسرح والدراما التلفزيونية والإذاعية، وأدب الطفل. فضلا عن كونها أكاديمية، حصلت على درجة الدكتوراه في الفلسفة، بأطروحة بعنوان «فلسفة الأخلاق عند نيتشة وأثرها في الفكر العربي». «القدس العربي» التقتها، وحاورتها حول تجربتها الإبداعية والفكرية وحول مجموعتها القصصية الصادرة مؤخرا بعنوان «يدفنون النهر» وكذلك كتابها الصادر عن أمانة عمان الكبرى المعنون بـ«فلسفة الفن والأدب عند نيتشه». فكان معها الحوار التالي..
■ بداية ماذا تعني لك الكتابة؟
□ الكتابة الإبداعية بكل أشكالها هي تعبير جمالي عن الواقع. فالكتابة الأدبية ليست تسجيلا وثائقيا أو تصويرا فوتغرافيا للواقع، وإنّما هي تعبير جمالي، له أن يرسخ ملامح هذا الواقع في الذاكرة، وله أن يلامس أحاسيس ومشاعر المتلقي حدّ التأثير فيه ودفعه إلى الارتقاء الإنساني ذهنيا وعمليا. فالكتابة عموما لها أن تقوم بالفعل الدافع للتغيير فيصبح المتلقي متأثرا ومؤثرا.
■ وكيف تبدو لك لحظة الكتابة؟
□ عندما تنضج الفكرة المستقاة أولا من الواقع، تَلحُّ عليّ بالخروج على شكل نصّ أدبي لا أخطط لملامحه منذ البداية، فأنا أهتم بالتعبير عن الناس أولا وهمومهم الوطنية والإنسانية، وأكثر ما يشغلني حالة التشظي التي يعيشها الإنسان العربي، لا سيما في فلسطين التي ولدنا في حضن قضيتها واكتوينا بنار الغربة عنها، تلك القضية التي أومن بأنها محور الصراع الوجودي للإنسان العربي لا قضية اغتصاب لأرض فحسب.
أهتم بالتعبير عن الناس أولا وهمومهم الوطنية والإنسانية، وأكثر ما يشغلني حالة التشظي التي يعيشها الإنسان العربي، لا سيما في فلسطين.
■ ما دلالة اختيارك عنوان «يدفنون النهر» لمجموعتك الأخيرة؟
□ ما تحمله هذه المجموعة من ألم وحبّ وأمل وإحباط ورصد للتردي الذي يحيط بالعالم والإنسان عامة وبالواقع العربي خاصة، دفعني إلى تلخيص القلق الوجودي الذي يهدد البشرية جمعاء، عبر قصص تنتمي في معظمها إلى النمط السيريالي، في ما تزاوج أحيانا بين السيريالية والواقعية، ذلك أنّ الأحداث الغرائبية التي تهدد العالم وتحيط بالإنسان العربي هي أشدّ غرابة من الخيال المفبرك، الذي قد تحوكه كلمات الأدباء. إنه واقع سيريالي بحق والتعبير عنه يحتاج إلى لغة رمزية وصور شعرية في أغلب الأحيان، من أجل تقريب هذا الواقع إلى ذهنية المتلقي وملامسته لحواسه وذاكرته. أما عن «يدفنون النهر» فترمز إلى المحاولات الدؤوبة من قبل الإمبريالية الطاغية لدفن الشعوب والقضاء على أحلامهم وآمالهم، تلك المحاولات التي لا بد أن تبوء بالفشل لأن الشعوب كما الأنهار لا يمكن دفنها، بل تظل متدفقة بالحياة والجريان.
■ وماذا عن كتابك «فلسفة الفن والأدب عند نيتشه»؟
□ صدر عن الدائرة الثقافية لأمانة عمان الكبرى، ويقع في مئتين وأربع وثمانين صفحة من القطع الكبير، وقد تناولت فيه فلسفة الفن والأدب عند الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، عبر دراسة معمقة اتكأت في معظمها على الحفر في الأصول الإبداعية والفكرية لنيتشه لاستخلاص نظرية الفن والأدب، لذلك الفيلسوف الإشكالي الذي أسس لنظريات ما بعد الحداثة وتأثر به عدد كبير من كبار المفكرين والفلاسفة، لاسيما ميشيل فوكو. كما عمدت إلى تسليط الضوء على رؤية نيتشه الجمالية التي تصدّت للمناهج الفلسفية الكلاسيكية الجامدة، وطرحت فلسفة أدبية فنية هي الأقدر على تفسير الحياة والكون، وتحديد موقع الإنسان من الوجود ودوره الفاعل فيه، بما يحقق هدف نيتشه الأسمى في تحقيق الإنسان الأعلى «الأوبرمنش».
■ كيف تحددين مفهومك للحداثة، خاصة في ما بين التراث والفكر الغربي؟
□ إن جدل الحداثة والتراث جدل واسع لا يمكن حصره في هذه العجالة، لكنني ألخص موقفي، لا بد من معالجة الموروث بأداتي النقد والتأويل، ومن ثم المزاوجة بينه وبين الحـــداثة المنسجــمة مع ذواتنا وقضايانا الوطنية والإنسانية.
■ يتردد بين حين وآخر أن هناك أزمة ثقافة، ويذهب آخرون إلى تسميتها أزمة مثقفين، ما رؤيتك لهذه القضية؟
□ الأزمة تقع في المؤسسة الثقافية، وليست في المثقف ذاته، فكل مرحلة لها محمولاتها الثقافية ولها فرسانها، لكن الحركة الإنتاجية للفعل الثقافي هي من تحاول أن تبرز وتهمش وتعلي وتطيح، لاعتبارات لا علاقة لها بالقيمة الحقيقية لذلك المنتج الثقافي وأصحابه، لكنني أقول دائما إنه لا يصح إلا الإبداع والزمن كفيل بترسيخ الأفضل والذائقة الإنسانية المحايدة المقبلة على مرّ الزمن، هي القادرة على تحقيق بعض العدل والإنصاف، والأزمة الثقافية ظاهرة متكررة من الأزل، ولن تنتهي طالما هناك سلطة تمسك زمام المشهد الثقافي.
النقد هو العين الثالثة والضرورية، ولكن هذه العين كثيرا ما تُصاب بقصر النظر حين تنطلق من مرجعيات مزاجية أو نفعية.
■ هل توافقين على تعبير الأدب النسوي والأدب الذكوري؟
□ أرفض تجنيس المنتج الذهني الإنساني، وأجد أنّ مصطلح الأدب النسوي مصطلح ذكوري أنتجه شخص متطرف. فالقضايا الإنسانية المعبر عنها جماليا، هي قضايا الكون والإنسان عامة، ولا يمكن أن يتم فرزها على أسس جندرية، فالكتابة عملية رصد للحياة وحركة الإنسان في داخلها .ومن خلال تجربتي أستطيع القول إنني تناولت الرجل ودافعت عنه حينا وأدنته حينا آخر، وتناولت المرأة بالأسلوب ذاته نقدا وتضامنا وإدانة، كلّ ذلك بحسب موقفها الإنساني في الحياة، لأن المعيار الحقيقي هو مدى تحقق القيم الإنسانية ضمن إطاري الحرية والعدالة، التي تتحقق للإنسان، ويحققه الإنسان للآخر، رجلا كان أم امرأة. ومن الطريف أنني سُئِلتُ لأكثر من مرة: كيف استطعت التعبير بهذه الدقة عن تفاصيل دواخل امرأة عانس في قصتك «ليس هو» وأنت ككاتبة لم تعيشي التجربة، بل أنك متزوجة منذ العشرين. هذا السؤال أثار حفيظتي ليقودني إلى سؤال آخر: لماذا ينظر للكاتب أو الكاتبة على وجه الخصوص بأنّه يعبر فقط عن تجاربه الذاتية والخاصة في الحياة؟ قد لا ينكر أحدنا بأن لتجاربنا الخاصة الأثر الكبير في إبداعاته، ولكنه أيضا ينتمي إلى منظومة بشرية ونسيج اجتماعي من حقه الأدبي، ومن حقهم عليه أن يعالج قضاياهم بأدواته الإبداعية، وبالصور الجمالية التي تحددها إمكانياته وقدرته على تقمصهم وعكس دواخلهم.
■ حصلت بعض أعمالك القصصية والمسرحية على العديد من الجوائز المحلية والعربية، فما هو الأثر الذي تركته هذه الجوائز في نفسك؟
□ بالتأكيد هو أثر جميل يحمل بعضا من التقدير لمنجز إبداعي خرج من بين ثنايا الروح، لاسيما حين لا يأخذ النص حقه في التقييم ضمن مجريات العمل الثقافي المؤسسي الاعتيادي على الصعيدين المادي والمعنوي. فالجائزة التي هي بمثابة اعتراف جزئي لقيمة العمل المنجز، هي أيضا تمثل حافزا مهما للكاتب في بداياته، كما تمثل تقديرا نسبيا لرحلته الإبداعية في محطات متأخرة.
■ وماذا عن وضعية النقد الأدبي اليوم في الأردن؟
□ النقد هو العين الثالثة والضرورية، ولكن هذه العين كثيرا ما تُصاب بقصر النظر حين تنطلق من مرجعيات مزاجية أو نفعية، أو حين تتعامل وفق منظومتي الإقصاء والتهميش، فتتناول أشخاصا ونصوصا، وتهمل آخرين لاعتبارات بعيدة عن الرؤية الموضوعية للمنجز الإبداعي وقيمته الحقيقية، ما يؤدي إلى هجرة الإبداع والمبدعين نحو مناخات وفرص قد تهيئ لمنجزهم بعض الإنصاف. وفي النهاية لا يصح إلا الإبداع وأن حركة الزمن كفيلة بغربلة المنجزات وتصنيفها وإعادة ترتيبها من جديد.
شكرا على تفكيرك المتساوي
احسنت حقا نهلة الجمزاوي
فلقد اضأت سماء فكر بعدما
صنع الرجال مع النساء بلاوي°
والأردنية نهلة الجمزاوي
نور أضاء بدون اي مساوي