عمان- «القدس العربي»: قد لا يفلح أي نقاش وسط المساعي للتأشير على أن أولويات الشارع الأردني «اقتصادية» وليست ذات صلة بـ»الإصلاح الاقتصادي» إذا اقتصرت الحكمة على الرغبة فقط بـ»تمرير» حزمة مثيرة للجدل من التحول السياسي والدستوري والتشريعي.
مبكراً، اعتبر مراقبون مخضرمون بينهم وزير البلاط الأسبق الدكتور مروان المعشر، بأن «تلازم مسارات الإصلاح» ضرورة ملحة لبناء «حاضنة اجتماعية» أفقية، فيما كان الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي الشيخ مراد عضايلة وفي المسألة الإصلاحية يكرر مقولته بعنوان «هم، ويقصد السلطة والدولة، من يحتاجون إلى الإصلاح السياسي وليس المواطن أو الأحـزاب».
وسط هذه التجاذبات، برزت في مستوى نخب السلطة صورة سيناريو تحاول الاعتماد على أن «الأولوية المعيشية» عند الناس لا تصادق على ما يقال حول «اهتمام الغالبية» بكل مؤشرات ومنهجيات التنمية السياسية.
بحضور «القدس العربي» وفي ندوة مغلقة استضافها المنتج التلفزيوني البارز محمد العجلوني، كان رئيس مجلس الأعيان فيصل الفايز يدقق في التفاصيل ويقترح الاستفسار عن مخرجات ونتائج أي «حوار سياسي» يمكن أن تقيمه الحكومة في المحافظات بعنوان «تحديث المنظومة والتحول الديمقراطي» على أهميته القصوى.
هل سنكتشف أن الجمهور معني هنا؟ سأل الفايز، لكن الجواب في الاستنتاج واضح، وهو اليقين بأن الأولويات المعيشية هي في صدارة هموم الأردنيين.
الاستنتاج على الأرجح دقيق، لكن ما قالته «القدس العربي» ولم يختلف معها الفايز هو التأشير على أن الشعور العام اليوم بأن الإخفاق بالمسارين معاً، بمعنى أنه لا إنجاز في المربع المعيشي والاقتصادي.
وهنا تبرز واحدة من أكثر الاعتبارات أو القناعات الشعبوية حساسية، فالجرعة الأكبر من «وعود الحكومة وأحياناً الدولة»، اقتصادياً ومعيشياً، لا تقدم أي محتوى إضافي يجعل الإصلاح السياسي ترفياً، لا بل على العكس تماماً، واحدة من تجليات «تحديث المنظومة» هي تلك التي تقول ضمناً وعمقاً بأن منطوق «الدولة الرعوية» يتراجع في الأردن، والمعنى أن الدولة تتراجع بالقطعة والتدريج عن التزاماتها بضمانات اقتصادية ومعيشية للمواطنين.
والمعنى أن ما تبقى من «خدمات» تقدمها الدولة في العادة، يتم التفكك منه ولا مجال لتقديمه أصلاً بعد «محاصرات عامي كورونا»، ووفقاً لما أقر به وزير التنمية السياسية موسى المعايطة.
وفي المقابل، تزداد البطالة، وتجد الحكومة صعوبة في إنتاج وظائف أو في التشغيل، وأخفقت كل مصفوفات وخطط التحفيز، ونظام «الرعاية» المعتمد من عقود لا يزال صامداً، ولا بديل حقيقياً على أساس العقائد التي طالما حكمت ماضي دولة الرعاية. كيف يمكن لحكومة الأردن أن تغادر هذه الازدواجية الحساسة بين «السياسي والاقتصادي»؟
السؤال الأخير مطروح وبقوة بلا إجابة شافية، وما يبدو عليه المشهد أن السلطة في عمان تعالج المسائل بالقطعة والتقسيط، وتكثر من الحديث عن «الإصلاح الهيكلي» دون تنفيذه أو حتى الاقتراب من تنفيذه على الواقع.
وهي آلية عمل أشبه بمنهجية «المياومة» وأقرب للصيغة التي كان يقترحها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور عمر الرزاز، الذي قرأ القطاع العام جيداً وبعمق، ورفع أمام «القدس العربي» مجدداً شعار «لن أبحث عن المشكلات.. سأنتظر حصولها وأشتبك عندما تحصل».
ما تفكر به الرؤية المرجعية الآن وعبر آليات «المنظومة والتعديلات ثم ورشة العمل» معاكس تماماً لاتجاه مقولة الرزاز، والفكرة اليوم هي «العمل جماعياً لمنع حصول المشكلة أصلاً». طبعاً، هذا النمط من العمل يحتاج إلى جرعة كبيرة من الشجاعة والتغيير بعد إغلاق صفحة التشخيص، وإلى جدية في الإرادة السياسية ظهرت مؤخراً على أكثر من محور، لكنها نمطية محفوفة اليوم -برأي مراقبين خبراء- ببعض المخاطر لأسباب لا تقف عند حدود «أزمة الأدوات والضمانات»، بل تعبر في اتجاه «كلفة الإصلاح الحقيقي وفاتورته»، والأهم في اتجاه بروز «حاجة في غاية الإلحاح» للإسراع في تقديم «حلول اقتصادية للناس» هذا أولاً، وثانياً للإسراع في تقديم وصفة وطنية تمنع الغرق أو الاسترسال في ازدواجية «الأولويات».
والسبب بسيط للغاية؛ ففي ظل الواقع الذي يقول بأن «الدولة ليست بصدد تقديم» معالجات سريعة للأزمات الاقتصادية والمالية والاستثمارية ولم تصل ليقين الإجابة على «سؤال الفساد».. في ظل ذلك، ستميل بوصلة الجماهير المعترضة أو المعارضة أو المتحركة للتحرك ولو انتهازياً نحو «التشكيك والسوداوية».
ومركز التأثير المركزي هنا هو التشكيك بخلفيات ودوافع وغايات كل ميكانيزم «تحديث المنظومة»، والغرق مجدداً في وحل أسئلة «الصلاحيات»، الأمر الذي لا يمكن مواجهته ولا مناجزته على أساس مقولات ومعلبات «الاشتباك الإيجابي» فقط.
ويعني ذلك أن الاستمرار في «إخفاق اقتصادي» سيغذي بصورة مرجحة الإحباط السياسي والاحتقان الاجتماعي، وسيدفع الجمهور المحتقن والغاضب دفعاً نحو «خرق الخطوط الحمراء» وجرح كل شيء، وعلى رأس القائمة المنظومة والتعديلات.
لذلك، الأفضل أمام النخب الرسمية والحكومية التوقف عن ترديد نغمة المفارقة التي تقول بأولوية «الخبز»، فالخبز أولوية طبعاً ودوماً وبدون شكوك، لكن الوضع سيصبح معقداً جداً ضمن معادلة «لا خبز ولا ديمقراطية» في حال الاستمرار ببهلوانيات التذاكي السلطوي التي تحاول وبوضوح اليوم «ركوب موجة» صناعة الأحزاب.
وما يمكن فعله فقط الضغط في اتجاه «منجز اقتصادي» حقيقي وسريع، من الواضح أن الوصول إليه «صعب ومعقد؛ حتى لا نقول شبه مستحيل»، دون تغيير قواعد اللعب وضبط الاعتداءات التي تمارس باسم الدولة ومن داخلها على منهجية «تحديث المنظومة»، مما يؤشر بحيوية على حاجة المؤسسات لعملية «ضبط إعدادات».
ثمة جهات لديها فائض من الانتهازية مع فرصة للاستثمار في مفارقات ما يقوله الرسميون عن ضعف اهتمام الشارع بالإصلاح السياسي، وثمن الانتهازية هنا يزيد مع صعوبة تحقيق منتج اقتصادي سريع وفعال.